“لا يمكننا تحمل استمرار التعثر من أزمة إلى أخرى”
– أنجيلا ميركل (2009م)
عنوان هذا المقال هو عنوان خطاب ألقاه في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008م رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق “جان كلود تريشيه”. وعلى الرغم من أن نداءه كان قبل 14 عاما إلا أنه يبدو مناسباً اليوم تماماً كما كان في ذلك الوقت. ولمعرفة السبب فإننا بحاجة إلى النظر في طبيعة السوق مقارنة بآلية النظام المصرفي السائد.
من حيث الواقع، تتمحور السوق حول المطابقة أو التوافق (matching)، في حين تدور آلية العمل المصرفي السائد حول عدم التوافق (mismatching). ويفسر عدم الانسجام المتأصل بينهما إلى حد كبير سبب تكرار إصابة اقتصادات السوق بآفة الأزمات المالية وشُح الائتمان.
الأسواق هي الأماكن التي يتوافق فيها العرض مع الطلب. والنقود نفسها اختراع بارع للتطابق بين البائعين والمشترين حيث يحقق التبادل منفعة لكلا الطرفين، ومن ثم فإن التطابق والتوافق ضروري لبناء الثروة.
وتعمل التقنية على تحسين التوافق بين الإنتاج والاستهلاك بشكل كبير. على سبيل المثال، تعمل التقنية “اللحظية “Just-in-time على تعزيز كفاءة إدارة المخزون بشكل فعال. كما يمكن بفضل التقنية أن يبيع المنتجون مباشرة للمستهلكين وإلغاء دور تجار التجزئة والوسطاء، مما يزيد من تحسين التوافق بين الجانبين. وفي القرن الحادي والعشرين، ارتقت المنصات متعددة الجوانب مثل Uber وAirbnb وFreelancer وeBay ومثيلاتها بوظائف السوق إلى مستوى جديد من خلق القيمة وتحسين الكفاءة.
أساس الأسواق التوافق في حين أن أساس النظام المصرفي هو عدم التوافق
وعلى النقيض من ذلك، فإن آلية عمل النظام المصرفي السائد قائمة على عدم التوافق. فالمصارف تقترض من المودعين على أساس أن أموالهم ستكون متوفرة عند الطلب، وتستخدم أموال المودعين في استثمارات طويلة الأجل نسبيا تجعل الأموال غير متوفرة عند الطلب. وهذا يمثل الاختلال في الآجال (الاقتراض لمدد قصيرة والإقراض لمدد طويلة وكسب الربح من الفرق بين الفائدة على النوعين).
ومن أشكال الاختلال وثيق الصلة الاختلال في العملات، بحيث يكون الاقتراض بعملة معينة والإقراض بعملة أخرى بسبب الاختلاف بين أسعار الفائدة على العملتين. ومن أشكال الاختلال كذلك التأمين التجاري الذي ينشئ التزامات ضخمة لكنها غير مؤكدة، مدعومة بتدفقات صغيرة من الأقساط المؤكدة. ومن ذلك أيضاً المشتقات المالية التي تخلق أنواعاً شتى من الاختلالات لتوليد أكبر قدر ممكن من الربح.
هذه الاختلالات بطبيعتها لا يمكن أن تستمر لفترة طويلة، إذ لا بد من تصحيح الوضع لاستعادة التوازن والتوافق بين الحقوق والالتزامات. ولسوء الحظ فإنه كلما طالت المدة قبل تصحيح الخلل زادت التكلفة. وبالتالي، فإن عدم التطابق يجعل النظام ضعيفا وهشا، ويمكن حتى للصدمة الطفيفة أن تتضاعف لتصبح أزمة على مستوى النظام بأكمله.
إن النظام “غير مستقر بطبيعته”، كما وصفه الاقتصادي هايمان مينسكي قبل نصف قرن. وترجع جميع الأزمات المالية تقريبا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك أزمة الديون في الثمانينيات، والأزمة الآسيوية في عام 1997م، والأزمة المالية العالمية في عام 2008م، بشكل أو بآخر إلى الإفراط في عدم التوافق. فلا عجب إذن أن يطلق على عدم التوافق مصطلح “الخطيئة الأصلية”.
وعدم التوافق هو في الأساس معادلة صفرية. وعلى النقيض من ذلك، يخلق التوافق قيمة مضافة لطرفي المعاملة، ومن ثم يسهم في مرونة النظام واستقراره. وبينما تعمل الابتكارات التقنية على تحسين كفاءة الاقتصاد الحقيقي، فإنها تجعل القطاع المالي أكثر تقلبا وأقل استقرارا، كما يتجلى في أداء الاقتصاد الأمريكي في فترة ما بعد الحرب.
لقد كان عدم التوافق عاملا رئيسا في وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008م، الأمر الذي حدا بمعايير “بازل 3” إلى اقتراح بعض التدابير الإجرائية للحماية من عدم التوافق المفرط والمخاطر الأخرى ذات الصلة. وعلى الرغم من أهمية هذه التدابير، إلا أنها لا تزال غير كافية للقضاء على المصدر الأساسي لعدم الاستقرار في النظام. أولاً لأنه رغم اعتماد بعض التدابير في الولايات المتحدة، فإنه من المحتمل ألا يتم اعتماد كل معايير “بازل 3” قبل عام 2025م. وعلاوة على ذلك ووفقا للاحتياطي الفيدرالي فإن هذه المعايير تطبق فقط على “البنوك الكبيرة”.
إن الفكرة القائلة بأن البنوك الكبيرة فقط – أو “المؤسسات المالية ذات الأهمية النظامية” – هي التي يمكن أن تسبب أزمة نظامية هي فكرة لا تتسق مع التطور البنيوي للنظام المالي، إذ إن المؤسسات المالية تنشئ شبكة سريالية من الترابطات التي غالبا ما تكون غير مفهومة بسبب طبيعة عدم التوافق ذاتها. وإذا كان النظام بأكمله مبنيا على أسس هشة، فيمكن حتى لانهيار بنك متوسط الحجم أن يؤدي إلى كارثة كبيرة، على نحو ما برهنته الاضطرابات الأخيرة التي أعقبت انهيار بنك “سيليكون فالي” في شهر مارس من هذا العام.
وعلاوة على ذلك، ففي حين تطبق “بازل 3” على البنوك التجارية فقط، نجد أن جزءا كبيرا من الوساطة المالية يتم خارج القطاع المصرفي التجاري. ووفقا لمجلس الاستقرار المالي، تشكل المؤسسات المالية غير المصرفية حوالي نصف أصول النظام المالي العالمي، وتقدر الأصول التي يسيطر عليها “قطاع الظل المصرفي” بنحو 226.6 تريليون دولار. وتميل هذه المؤسسات إلى تكرار نموذج البنوك التجارية للاقتراض قصير الأجل والإقراض طويل الأجل دون اعتبار الضوابط الرقابية التي تخضع لها البنوك التجارية. ونظرا لأن بنوك الظل هذه مترابطة مع البنوك التجارية بطرق عديدة مبهمة، فإنه يمكن للمخاطر أن تنتشر بما يتجاوز سلطة الجهات الرقابية.
cd cd
إن فرض تدابير تنظيمية أكثر صرامة، مع الإبقاء على الأساس الهش في محله، من المرجح أن يساعد بشكل مؤقت فقط، ولكنه يجعل الأمور أسوأ لاحقاً
تعددت في الأزمة الحالية – كما هو الحال مع كل أزمة – وقائع سوء الإدارة والاحتيال وسوء السلوك. وتحدث مثل هذه الوقائع أيضا في الاقتصاد الحقيقي، ولكنها لا تؤدي إلى عواقب وخيمة كما هو الحال في القطاع المالي. والمفروض أن يتم تصحيح الأخطاء السلوكية من خلال آلية السوق، ،ه، ما لا يقع في القطاع المالي. إن حقيقة أن الصناعة المالية لا تستطيع تحييد هذه الأخطاء داخليا إلا بوجود ضوابط تنظيمية إضافية دليل واضح على أن النظام غير متوافق مع منطق السوق الحرة، وأن فرض تدابير تنظيمية أكثر صرامة مع الإبقاء على الأساس الهش في محله من المرجح أن يساعد بشكل مؤقت فقط، ولكنه يجعل الأمور أسوأ لاحقا.
“لا يمكننا تحمل استمرار التعثر من أزمة إلى أخرى”، بهذا صرحت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في مارس 2009م. ولذا، فإننا بحاجة إلى تغيير النموذج لإعادة تصميم النظام المالي. وقد أشار إلى ذلك “جان كلود تريشيه”، وتظل نصيحته صالحة اليوم تماما كما كانت في عام 2009م، حيث قال: “يجب علينا تصحيح العيوب الجوهرية في النظام المالي التي باتت جلية الآن.”
اقرأ أيضا:
الأزمة المصرفية الأمريكية ومخاطر العدوى العالمية
ترجمة: د. محمود بكري
We cannot afford to keep stumbling from one crisis to the next -- Angela Merkel (2009) The title of this...
Readالمحقق غريغوري: هل هناك أي نقطة أخرى تود أن تلفت انتباهي إليها؟ شرلوك هولمز: الحادثة الغريبة للكلب في الليل. المحقق غريغوري: الكلب...
قراءة المزيدDetective Gregory: Is there any other point to which you would wish to draw my attention? Sherlock Holmes: To the curious...
Read