مقدمة
أدى انهيار بنك وادي السيليكون (SVB) وبنك سيجنتشر (Signature Bank) في الفترة بين 8 و10 مارس 2023م إلى حدوث اضطراب مالي عميق في الولايات المتحدة، مما دفع السلطات المالية والنقدية إلى التدخل بسرعة لتجنب انتقال العدوى. وكان بنك SVB متخصصاً في تقديم الخدمات المالية والمصرفية للشركات الناشئة التي يدعمها رأس المال المخاطر، وتشكل غالبيتها شركات التكنولوجيا. ويعد هذا فشلاً لأكبر بنك أمريكي منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008م. ويعزى فشل بنكSVB بشكل عام إلى تفاقم مشاكل السيولة بسبب عمليات السحب الكبيرة والسريعة، وصافي هامش الفائدة المرتبط بالتراجع الواسع لقطاع التكنولوجيا، وارتفاع أسعار الفائدة الذي أدى إلى تدهور ميزانياتها العمومية بسبب الخسائر الكبيرة غير المحققة.
حدث انهيار SVB في خضم تأزم الأوضاع المالية العالمية وزيادة الشكوك بشأن آفاق الانتعاش العالمي. ولذا، فإنه من الضروري فهم ودراسة مدى التأثير التبادلي بين سياسات البنك المركزي الشاملة وفشل بنك SVB. فقد قامت البنوك المركزية، وخاصة نظام الاحتياطي الفيدرالي (FED) للولايات المتحدة، في عام 2022م استجابة لتسارع التضخم العالمي برفع أسعار الفائدة من 0.125٪ في فبراير 2022م (فترة ما قبل أزمة شرق أوروبا) إلى 4.625٪ في فبراير 2023م.
وبسبب التحول من التيسير إلى التشديد النقدي، بدأت عائدات السندات تعكس معنويات السوق المتغيرة في الولايات المتحدة، التي يمكن ملاحظة تأثيرها في الميزانيات العمومية للبنوك. ونتيجة لذلك، تدهورت قيمة الأصول طويلة الأجل، مثل السندات الحكومية والرهون العقارية، مما كشف مخاوف الملاءة المالية وضغوط السيولة، خاصة بالنسبة للبنوك متوسطة الحجم والبنوك الإقليمية.
وعلى الرغم من عمليات الإنقاذ الضخمة للقطاع المصرفي الأمريكي، ظلت معنويات المستثمرين هشة ومخاطر العدوى العالمية قائمة. وتهدف هذه الورقة المتخصصة إلى تقديم مزيد من الرؤى حول الأزمة المصرفية الأمريكية في الوقت الذي تتكشف فيه. ويركز التحليل على الجوانب التالية: (1) فهم الظروف التي أدت إلى الأزمة. (2) تسليط الضوء على ردود أفعال السياسات حتى الآن. (3) تقييم مخاطر العدوى عالميا. (4) استخلاص الدروس والتوصيات المحتملة.
حالة فشل بنك وادي السيليكون
تم إنشاء بنك SVB في عام 1983م، وأصبح يعد في نهاية عام 2022م من بين أكبر 20 بنكا تجاريا أمريكيا. ويحوي البنك أصولا بقيمة 209 مليار دولار أمريكي، وقدم تمويلات لما يقرب من نصف شركات رأس المال المخاطر في مجال التكنولوجيا والشركات الناشئة في مجال الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وذلك من أموال الودائع التي كان 49٪ منها في مجال التكنولوجيا و11٪ في مجال الرعاية الصحية في عام 2022م (الرسم البياني 1). وقد كان يعدّ أيضا البنك المفضل لقطاع التكنولوجيا لأنه يدعم الشركات الناشئة التي لا تمولها جميع البنوك نظرا لارتفاع مستوى المخاطر لديها. وبحلول نهاية عام 2022م، بلغ إجمالي ودائع بنك SVB مبلغ 175,4 مليار دولار أمريكي، منها 151.6 مليار دولار أمريكي غير مؤمن عليها) أعلى من عتبة التأمين لدى المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائعFDIC والبالغ قيمتها 250 ألف دولار أمريكي (.
كان عام 2020م عاما مربحا لشركات التكنولوجيا، حيث أنفق المستهلكون مبالغ كبيرة على الخدمات الرقمية والإلكترونيات بسبب ترتيبات العمل من المنزل أثناء الوباء. ونتيجة لذلك، تلقت شركات التكنولوجيا تدفقات نقدية كبيرة، الأمر الذي تطلب خدمات مالية إضافية يوفرها القطاع المصرفي. وبدلا من استخدام حسابات أخرى، مثلما هو الحال في سوق المال، تركت العديد من شركات التكنولوجيا أموالها في حسابها الأساسي في SVB لتغطية نفقات الأعمال قصيرة الأجل. وهو ما يعني أن معظم رأس المال العامل (لكشوف المرتبات والنفقات الأخرى قصيرة الأجل) كان في حساباتهم لدى SVB.
الرسم البياني: أموال الودائع لدى بنك SVBعام 2022م
في عام 2021م، وبسبب معدلات الفائدة المنخفضة القياسية وازدهار الاستثمار في الشركات الناشئة، نمت الودائع في بنكSVB بنسبة 100٪، من 62 مليار دولار أمريكي إلى 124 مليار دولار أمريكي. ولم يكن SVB بحاجة إلى تمديد الائتمان بحكم عمله مع شركات التكنولوجيا الناشئة المتخمة بالنقود، ولأن حوالي 44٪ من شركات التكنولوجيا التي تم طرحها للاكتتاب العام في عام 2021م كانت تعاملاتها البنكية مع بنك SVB. وبدلا عن ذلك، استثمر بنك SVB نسبة 56% من الأصول في سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل، التي تحمل – نظراً لطبيعة كونها طويلة الأجل – مخاطر متعلقة بأسعار الفائدة. وقد كان عملاؤها الأساسيون، وهي الشركات الناشئة، معرضين بشدة لمخاوف أسعار الفائدة بسبب طفرة التمويل المدفوعة بسعر الفائدة المنخفض.
ومع ارتفاع أسعار الفائدة بشكل حاد بداية من عام 2022م، انخفضت قيمة سندات الخزانة الأمريكية، وانخفض تمويل الشركات الناشئة بنسبة 35٪ في عام 2022م. ونتيجة لذلك، بدأت الشركات الناشئة في سحب الاستثمارات من بنك SVB، وتسببت أزمة السيولة في حرمان الشركات الناشئة من السيولة النقدية وفي سحب العديد من الشركات الناشئة الأخرى ودائعها من بنكSVB، وتسارعت تدفقات الودائع الخارجة في الأسابيع التي سبقت الإخفاقات. وعلاوة على ذلك، حبست السندات طويلة الأجل أموال بنك SVB التي كانت أسعارها تتناقص حيث لم يكن هناك أموال كافية لعمليات السحب مما أدى إلى الانهيار.
انهار بنك SVB بسرعة مذهلة بعد 8-9 مارس 2023م. وفي الفترة التي سبقت الانهيار، تكبد البنك خسارة قدرها 1.8 مليار دولار بسبب تصفية قسرية لسندات بقيمة 21 مليار دولار من محفظتها المتاحة للبيع في 8 مارس 2023م، وأعلن بنك SVB آنذاك عن خطط لجمع 2.25 مليار دولار من رأس المال للمساعدة في سد العجز. وفي 9 مارس 2023م، شهد البنك تدفقات مصرفية كبيرة بقيمة 42 مليار دولار من عمليات السحب التي أطلقها المودعون لتتراجع أسهم البنك. وفي 10 مارس 2023م، أعلنت إدارة الحماية المالية والابتكار في كاليفورنيا (DFPI) إفلاس بنك SVB، وتم تعيين المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) بصفة المتلقي. ولعل ما ساهم في نقص السيولة لدى بنك SVB يتلخص في ثلاثة أسباب، هي: عدم تطابق المدة، وانخفاض قاعدة الودائع، وانخفاض صافي هامش الفائدة.
إخفاقات البنك النظامية وردود فعل السياسات
ونتيجة للأزمة المالية العالمية عام 2008م، سُن في عام 2010م قانون يشار إليه على نطاق واسع باسم “دود فرانك”، أنشأ تنظيمات أكثر صرامة في الولايات المتحدة للبنوك التي لا تقل أصولها عن 50 مليار دولار أمريكي. وقد طلب من هذه البنوك، التي اعتبرت ذات أهمية نظامية للنظام المالي، أن يخضعها الاحتياطي الفيدرالي سنويا لاختبارات التحمل (stress test) بغية الحفاظ على مستويات معينة من رأس المال والسيولة.
لم يكن بنك SVB يعتبر قبل فشله ذا أهمية نظامية من وجهة النظر الرقابية، حيث كان لاعبا صغيرا في النظام المصرفي الأمريكي. وكانت أصول بنك SVB وقت انهياره تقدر بقيمة 209 مليار دولار أمريكي، وتم إعفاؤه من هذا المطلب، بسبب التغيير التشريعي لعام 2018م الذي زاد من العتبة من 50 مليار دولار أمريكي في الأصول إلى 250 مليار دولار أمريكي. وبعد فشل بنك SVB، زادت فروق الائتمان بشكل كبير، وخفضت وكالة موديز تصنيف الصناعة المصرفية الأمريكية من مستقرة إلى سلبية.
تشير استجابة السلطات الأمريكية السريعة والجريئة إلى وجود قلق حقيقي بشأن عدوى مالية محتملة، فقد أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي والمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع ووزارة الخزانة في 12 مارس 2023م أن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع ستقوم بحل بنك SVB مع توفير الحماية الكاملة لجميع المودعين، مما يسمح لهم بالوصول إلى كافة أموالهم اعتبارا من 13 مارس 2023م. وصدر هذا الإعلان لطمأنة المودعين بأن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع سترفع الحد البالغ 250 ألف دولار أمريكي على تأمين الودائع لتجنب أي مخاطر نظامية في النظام المالي.
وفي 15 مارس 2023م، قدم بنك الاحتياطي الفيدرالي حوالي 153 مليار دولار أمريكي سيولة إضافية للبنوك من خلال نافذة الخصم و12 مليار دولار أمريكي أخرى من خلال برنامج البنك للتمويل بأجل (BTFP)، مع أن قيمة الاقتراض قبل ذلك بأسبوع كان حوالي 5 مليارات دولار فقط. وفي الوقت نفسه بلغ متوسط الاقتراض اليومي حوالي 85 مليار دولار أمريكي خلال الأسبوع، مقارنة بـ 4.4 مليار دولار أمريكي قبل أسبوع فقط، وتعد هذه أعلى مستويات الاقتراض المصرفي من الاحتياطي الفيدرالي منذ الأزمة المالية العالمية. وبصرف النظر عن هذه القروض، خصص الاحتياطي الفيدرالي أيضا حوالي 143 مليار دولار أمريكي لضمان جميع الودائع في بنك SVB وبنكSignature .
من الواضح أن إخفاقات بنك SVB وبنكSignature، مع حدوث تطورات كل يوم، هي جزء من وضع متغير. ومع ذلك، فمن الواضح أيضا مدى السرعة التي يحاول بها بنك الاحتياطي الفيدرالي احتواء الموقف، وربما يرجع ذلك إلى الدروس المستفادة وإجراءات الحماية التي تم وضعها بعد الأزمة العالمية في عام 2008م، لتجنب انتشار عدوى اقتصادية – أو ما هو أسوأ – على الصعيد العالمي.
مخاطر العدوى العالمية لا تزال قائمة
كان بنك SVB على وجه الخصوص أكثر عرضة لصدمة مالية بسبب ضعف الحوكمة، حيث إنه لم يتحوط من مخاطر أسعار الفائدة على سندات الخزانة طويلة الأجل، ولم يوظف رئيس مسؤولي المخاطر لمعظم عام 2022م. ومع ذلك، فقد يكون ضعف التنظيمات الحكومية قد ساهمت جزئيا أيضا في الانهيار. ونظرا لأن اللوائح الصارمة لبنك الاحتياطي الفيدرالي كانت قابلة للتطبيق فقط على البنوك التي لديها أصول تزيد عن 250 مليار دولار أمريكي، فربما لم تتخوف الحكومة في البداية من أن يسبب بنك SVB العدوى. ومع ذلك، فقد أدى انهيار البنك إلى تغذية المخاوف من “تأثير قطع الدومينو” من خلال المخاطر النظامية والعدوى، مما يشير إلى وجود فجوة محتملة في التنظيمات.
وتنقسم العدوى إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى في هذا الضرب من الأزمات هو ذعر مالي يسببه تسارع عمليات السحب (run-on) من بنك يمتلك ميزانيات عمومية ضعيفة، مما يعني خسائر محتملة كبيرة مقارنة بمستويات رأس المال المساهم. وعندما ترتفع أسعار الفائدة تأتي المرحلة الثانية من الأزمة حيث تتركز المخاوف على جودة الائتمان، وهو ما تحاول الجهات الرقابية احتواءه وتجنبه.
وفي سويسرا، يشير ما تبع ذلك من ضغط على بنك Credit Suisse إلى خطر انتقال العدوى عالميا. ويصنف هذا البنك بين أكبر مديري الثروات في العالم وأحد أهم ثلاثين بنكا عالميا من حيث الأهمية النظامية، التي يؤدي إخفاقها إلى زعزعة استقرار النظام المالي. وقد عانى بنك Credit Suisse من الخسائر المالية وقضايا الامتثال وخرق البيانات البارزة، وتسببت سلسلة من الإعلانات المتعلقة بالصحة المالية للمؤسسة والحوكمة المؤسسية في عمليات بيع كبيرة لأسهم البنك.
الخاتمة والدروس المستفادة
تقدم إخفاقات البنوك مؤخراً في الولايات المتحدة عدة دروس. أولا، إن الانتقال السريع من التيسير النقدي بمعدلات فائدة شديدة الانخفاض إلى التشديد النقدي بأسعار فائدة مرتفعة من شأنه أن يؤثر بشكل سلبي على الميزانيات العمومية للبنوك. وتكون البنوك التي لديها نسبة أعلى من الأصول طويلة الأجل – مثل سندات الخزينة أو الرهون العقارية – أكثر عرضة لهذه التحولات بسبب تغير معنويات المخاطرة في الأسواق.
ثانيا، أسفر النمو العالمي لوسائل التواصل الاجتماعي والرقمنة والخدمات المصرفية الرقمية إلى تسريع معدل حدوث عمليات السحب من البنوك. ويظهر إخفاق بنك SVB في يومين، على سبيل المثال، قوة وسائل التواصل الاجتماعي وكيف يمكن للتصريحات على مواقع التواصل الاجتماعي أن تطلق شرارة الذعر المالي وتسارع السحب من البنك. وتشير الإخفاقات المصرفية الأخيرة إلى أن سهولة السحب والتحويلات المالية قد تجعل النظام المصرفي عرضة لمخاطر غير متوقعة.
ثالثا، توضح حالات فشل البنوك الأخيرة أن مشكلة المخاطر الأخلاقية لا تزال بارزة في أداء النظام المالي العالمي. ومع إنقاذ الجهات الرقابية الفيدرالية لبنك SVB وبنك Signature، يبدو أن النقاش حول البنوك ذات الأهمية النظامية في النظام الرقابي المالي لم يعد مهماً، حيث إنه لا يمكن السماح حتى للبنوك التي لديها حصة صغيرة نسبيا من الأصول في الصناعة المصرفية بالإخفاق دون تدخل الحكومة.
رابعا، إن أهمية الرقابة والإشراف التنظيمي تحتاج لإعادة النظر. فقد فتح الإخفاق التنظيمي الباب على مصراعيه لإخفاقات البنوك الأخيرة عندما تم تخفيف الرقابة المالية على البنوك الأصغر قبل بضع سنوات لأنها لم تعتبر ذات أهمية نظامية للصناعة المالية. ومع ذلك، وخلافا لما نؤكد عليه هنا، فإن عدم الاستقرار المالي متأصل في النظام الرأسمالي، وسيتعين على اللوائح باستمرار مواكبة التغيرات في السوق.
خامسا، ليس هناك ما يشير، حتى الآن، إلى انتقال العدوى إلى الأسواق الناشئة والبلدان النامية. ومع ذلك، تظهر الأزمات المصرفية الأخيرة أن ظروف السوق ومعنويات المستثمرين يمكن أن تتحول بسرعة وتتسبب في “تأثيرات دومينو” تكون خارجة عن سيطرة السلطات الوطنية. وبالإضافة إلى ذلك، تبرز اليوم مخاطر جديدة ومهمة لم تكن جلية في الأزمات السابقة، ومن ذلك: التفشي الخطير للتضخم والتجزئة الجيوسياسية.
أخيرا، يفاقم ارتفاع مستوى التضخم التحدي المتمثل في الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي في البلدان الناشئة والنامية، مع تجنب مخاطر عدم الاستقرار المالي. ولقد وضعت الأزمات المتتالية الاقتصادات بالفعل تحت ضغط شديد. وفي هذا السياق، يمكن أن يكون لأزمة مصرفية عالمية أخرى آثار مدمرة على الاقتصادات الأكثر هشاشة.
ترجمة: د. محمود بكري
Introduction The collapse of Silicon Valley Bank (SVB) and Signature Bank on 8-10 March 2023 has triggered deep financial turmoil...
Read