أهمية تبني التقنيات المالية الرقمية في مصر

عبد الرحمن الزاهي سعيد علي

21 Aug, 2023

مقدمة

يبلغ عدد سكان مصر المتنامي أكثر من 100 مليون نسمة، بزيادة قدرها أكثر من 7 ملايين منذ تعداد عام 2017م. وفي ظل هذا النمو السكاني تواجه البلاد تحديات إنمائية كبيرة، حيث إن عدداً كبيراً ومتزايداً من سكانها لا يتعامل مع البنوك ولا يصل إلى الخدمات المالية. ومن هذا المنطلق، تبذل مصر جهوداً متزايدة لتعزيز تقديم حلول الشمول المالي الرقمية الميسرة التكلفة لتوسيع نطاق خدماتها المالية من خلال تشجيع تدخل القطاع الخاص.

ويمكن للقطاع الخاص أن يساهم بشكل فعال في تبني التكنولوجيا المالية من خلال الهواتف الذكية وتطبيقات الدفع الفوري. وقد أنشأ البنك المركزي المصري بوابة إلكترونية للتكنولوجيا المالية تحت مسمى: “Fintech Egypt” بهدف تعزيز الشمول المالي من خلال رقمنة الشركات الناشئة والشركات المالية للمستثمرين. ويتمثل الهدف الأساسي في إدراج كافة المؤسسات المالية ومقدمي الخدمات والمستخدمين ضمن منظومة متكاملة فعالة للتكنولوجيا المالية، بالإضافة إلى إتاحة الخدمات المالية للمصريين وتعزيز الشمول المالي من خلال الوصول المالي الرقمي.

وثمة مبادرة أخرى للتكنولوجيا المالية من قبل القطاع العام، تتمثل في تطوير نظام دفع إلكتروني جديد للاستخدام المحلي داخل أراضي الدولة، حيث قام البنك المركزي بتنسيق هذا النظام الجديد مع البنوك الوطنية المصرية، وتم سن القانون التنظيمي رقم 18 في عام 2019م من أجل تفعيل نظام المدفوعات الإلكترونية. وتمهد مبادرات القطاعين العام والخاص الطريق لاعتماد التكنولوجيا المالية وتطبيقها في مصر، ومن المتوقع أن يؤثر تبني هذه التكنولوجيا بشكل إيجابي على حياة المواطنين الذين لا يتعاملون مع البنوك ولا تصلهم الخدمات المالية، وذلك من خلال تعزيز الشمول المالي الذي يناقش هذا المقال سبب أهميته بالنسبة للجمهورية المصرية. ومن المتوقع أن تمكن المبادرات المالية الرقمية الخدمات المالية من الوصول إلى المناطق النائية التي يتعذر الوصول إليها، والتغلب على العقبات المادية والمالية في البنية التحتية، للوصول على وجه الخصوص إلى الـ 70٪ من المواطنين المحرومين.


كوفيد-19 والرقمنة

شهدت الأعوام الثلاثة التي سبقت جائحة كوفيد -19 نموا شاملا ومتسارعا في مصر نتيجة الإصلاحات الاقتصادية الكلية والهيكلية المكثفة التي حسنت اقتصاد البلاد. ومع ذلك، وكما هي الحال في بقاع أخرى من العالم، تأثرت مصر بأزمة كوفيد-19 العالمية بالرغم من التحسن السابق في اقتصادها، حيث انخفض النمو الحقيقي للمنتجات المحلية من %5.6 في 2018/2019م إلى %3.6 خلال 2019/2020م، وقد يعزى هذا الانخفاض إلى الإجراءات الحكومية الصارمة استجابة لجائحة كوفيد-19. وقد أدى الوباء إلى انكماش أنشطة القطاع الخاص، وخفض فرص العمل، وانخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر، وشهد قطاع الصادرات غير النفطية تدنيا ملحوظا في الأداء. ولعل الأداء الاقتصادي غير الملائم أفضى أيضاً إلى هيكل ميزانية غير ملائم بمخصصات محدودة لقطاعي الصحة والتعليم.

وكما هي الحال في أماكن أخرى من العالم، أثرت قيود السفر الدولية بشدة على العديد من الصناعات الحيوية في مصر، مثل السياحة والتصنيع وقناة السويس واستخراج الغاز. وشهد النمو تحسناً في الربع الثاني من العام 2020/2021م بسبب رفع حظر التجول وتخفيف إجراءات التباعد الاجتماعي، كما ظل النمو الاقتصادي الحقيقي إيجابيا، مسجلاً زيادة قدرها 8.7٪ في الربع الأخير من عام 2021م، أعلى من العام السابق، قبل أن يتباطأ إلى أقل من 4٪ في عام 2022م للفترة نفسها بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وتم فقدان أكثر من مليوني وظيفة لترتفع البطالة من 7.7٪ في 2018/2019م إلى 9.6٪ في 2019/2020م، كما هو موضح في الشكل 1.

وهذا يعني أن الجهود الأخيرة التي بذلتها الحكومة المصرية لتبني التكنولوجيا المالية من الضرورة بمكان من أجل النمو الاقتصادي الحقيقي للبلاد. كما تعتبر المبادرات الحكومية الحالية مزايا لصالح الرقمنة واعتماد التكنولوجيا المالية، حيث تخلق ظروفا مواتية للشمول المالي للأفراد والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة مع المساهمة في النمو الاقتصادي الحقيقي. وهناك ثلاثة أسباب رئيسة، إلى جانب الوضع الاقتصادي، تجعل الشمول المالي الرقمي ضروريا لمصر، وهي: البطالة والفقر والمواطنون غير المتعاملين مع البنوك بشكل كبير.


الشكل 1: النمو الاقتصادي الحقيقي والبطالة في مصر

مصدر البيانات: www.ceicdata.com


معدل البطالة

مثل سائر البلدان العربية في شمال إفريقيا، فإن البطالة في مصر مرتفعة، وخاصة بين الشباب والنساء. وقد تفاقم هذا المعدل المرتفع بسبب تفشي جائحة كوفيد-19 والتدابير التي أعقبتها مثل الإغلاق وحظر التجول، ناهيك أن البطالة مرتفعة بين الشباب في مصر بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة الضغوط الديموغرافية.

وعلاوة على ذلك، يعتبر النوع الجندري أحد المحددات الأساسية للبطالة في مصر، ففي حين أن معدل البطالة مرتفع بين الشباب والشابات، تظهر الأدلة أرقاما أعلى لدى الشابات مقارنة بالشباب. ويوضح الشكل 2 أنه في عام 2020م احتلت مصر المرتبة 134 من أصل 153 دولة في التقرير العالمي للفجوة بين الجنسين، والمرتبة 140 من حيث المشاركة الاقتصادية والفرص مقارنة بـ 139 في العام السابق. وقد يرجع السبب في زيادة الفجوة في عام 2020م إلى تأثير تدابير كوفيد-19، حيث انخفض النمو الاقتصادي، وانخفضت الوظائف المتاحة، وتعرض المزيد من المواطنين إلى خسارة وظائفهم.
ويمكن معالجة انخفاض المشاركة العمالية والبطالة المرتفعة بين الشباب، وخاصة الشابات، عبر تبني التكنولوجيا المالية وبناء القدرات ذات الصلة، نظراً لأن مصر بحاجة إلى تدريب المزيد من المواطنين في الجوانب المتعلقة بالتكنولوجيا. كما يمكن أن يوفر تبني التكنولوجيا فرص عمل تنسجم مع الأسرة، وأوقات عمل مرنة يمكنها تجاوز البنية التحتية الضعيفة، حتى في المناطق النائية. وعلاوة على ذلك، يمكن للحكومة المصرية حل مشكلة تركُّز الوظائف في القطاع العام من خلال تبني التكنولوجيا وتشجيع القطاع الخاص.

الشكل 2: مؤشر مصر العالمي للفجوة بين الجنسين 2020م

مصدر البيانات: التقرير العالمي للفجوة بين الجنسين 2020م

يوضح الشكل 2 انخفاض مشاركة القوى العاملة وارتفاع معدلات البطالة ونسبة التركز، وذلك في أوساط الشباب على وجه التحديد. وهذه القضايا مترابطة بشكل وثيق ويمكن معالجتها من خلال السياسات التي تعزز ظروف العمل المراعية للأسرة، ومن خلال إضفاء الطابع الرسمي على القطاع الخاص. وقد تتغلب الحملة التشجيعية التي أطلقتها الحكومة المصرية مؤخراً لتبني التكنولوجيا على معظم التحديات المذكورة آنفاً، بما في ذلك التأثير السلبي لتدابير كوفيد-19. كما يمكن أن يساعد تطبيق تكنولوجيا المعلومات على مواجهة تحديات التجانس في الوظائف، وعدم التطابق في سوق العمل الناتج عن نقص المعلومات. وعلاوة على ذلك، فإن تعرض الشباب لمزيد من برامج بناء القدرات سوف يساعد أيضا في توظيف أولئك الذين يفتقرون إلى فرص العمل.

معدل الفقر

يوضح الشكل 3 أن معدل الفقر في مصر كان مرتفعا نسبيا قبل تفشي مرض كوفيد -19، حيث بلغ 32.5٪ في 2017/2018م. ولم تتحسن هذه النسبة المئوية خلال 2020/2021م بسبب تدابير كوفيد-19 كحظر التجول والإغلاق. وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية بذلت جهودا كبيرة للحد من التأثير الحاد لكوفيد-19 من خلال اتخاذ تدابير مثل برامج التحويلات النقدية المستهدفة، وتكافل الكرامة، وبدلات دعم المواد الغذائية، فقد ارتفع معدل الفقر من 29.2٪ في 2019م إلى 31.9٪ في 2020م. ومن المتوقع أن ينخفض معدل الفقر في مصر في السنوات التالية بعد اعتماد التكنولوجيا المالية، وذلك نظرا إلى أن التكنولوجيا المالية الرقمية توسع نطاق الانتشار المالي، الأمر الذي يقلل من عدد السكان غير المتعاملين مع البنوك، ويتيح للمزيد منهم إمكانية الوصول إلى الخدمات المالية.


الشكل 3: الفقر في مصر

مصدر البيانات: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء

شريحة السكان غير المتعاملين مع البنوك

مصر هي أكبر دولة في الشرق الأوسط من حيث عدد سكانها الذي يبلغ أكثر من 100 مليون نسمة. ووفقاً لتقرير حديث الإصدار فإن مصر هي ثاني أكثر دولة تعتمد على الأوراق النقدية في العالم، وبها ثالث أكبر عدد من المواطنين الذين لا يتعاملون مع البنوك، بنسبة تبلغ حوالي 67 ٪ (كما هو موضح في الشكل 4) من البالغين المصريين الذين لا يمتلكون حسابات بنكية ويعتمدون بالكامل على التعاملات النقدية.

وعلاوة على ذلك، تحتل مصر المركز الثالث من حيث انخفاض التغلغل الائتماني، وندرة عدد أجهزة الصراف الآلي لكل فرد، وقلة التعاملات غير النقدية. وقد عرفت مصر تاريخيا باعتمادها على النقد، وهذا الأمر – الذي يعكسه العدد الكبير من المواطنين الذين لا يتعاملون مع البنوك – يؤثر بشدة على الشمول المالي فيها. وقد بذلت الحكومة مؤخرا جهوداً متزايدة من خلال الموافقة على سياسات تهدف إلى الدفع نحو الاعتماد على التكنولوجيا المالية والتوسع في استخدام المدفوعات اللاسلكية. ومن المتوقع أن تؤدي السياسات الحالية التي يقودها البنك المركزي المصري إلى زيادة المدفوعات غير النقدية وزيادة عدد المواطنين المتعاملين مع البنوك.


الشكل 4: الأشخاص غير المتعاملين مع البنوك في مصر قبل كوفيد-19 :

مصدر البيانات: merchantmachine.co.uk

خاتمة

يؤكد هذا المقال على أهمية اعتماد الابتكار والتكنولوجيا الرقمية في مصر من أجل تعزيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، والحد من البطالة، وزيادة عدد المتعاملين مع البنوك من خلال تحسين الوصول إلى التمويل الميسر التكلفة. وقد أولت الحكومة المصرية مؤخرا مزيدا من الاهتمام باعتماد التكنولوجيا المالية من خلال السياسات المالية الحكومية، وتحسين البيئة التنظيمية المالية، وإشراك الجهات الفاعلة المحلية والدولية بغية تمهيد الطريق لتحقيق هذا الهدف الحيوي بشكل فعال. وعلاوة على ذلك، فإن الإجراءات المتخذة للتغلب على جائحة كوفيد-19 منذ عام 2020م قد تسارع خطى الإستراتيجية الحكومية في اعتماد التكنولوجيا المالية لمواجهة التحديات الجديدة. كما قد يؤدي اعتماد التكنولوجيا إلى تمكين البلاد من تجاوز المزيد من التحديات التي تعيق ازدهار مصر، فعلى سبيل المثال يمكن للمؤسسات المالية – من خلال التكنولوجيا اللاسلكية – توسيع خدماتها المالية بشكل متسارع كي تصل إلى المناطق النائية التي تتسم بضعف البنية التحتية الأساسية دون إنشاء فروع مادية مكلفة.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد يساعد تبني التكنولوجيا المالية على حل تحديات العقبات الديموغرافية، بحيث يسهل حياة غير المشمولين بالخدمات المالية، والذين يعيشون في المناطق الريفية النائية وضواحي المدن. ونظراً إلى الأهمية القصوى لتبني التكنولوجيا المالية بالنسبة للدولة المصرية، فإن مشاركة القطاع الخاص ضرورية للمساعدة في إستراتيجية الشمول المالي التي اعتمدتها البلاد مؤخرا. وعلاوة على ذلك، ونظرا لمحدودية الوصول الفعلي الملموس للمؤسسات المالية الإسلامية، فإن التكنولوجيا المالية الرقمية قد تساعد البنوك الإسلامية في مصر على توسيع انتشارها حتى تصل إلى المناطق الريفية. ولا شك إن تبني التكنولوجيا المالية وإشراك جميع المواطنين من خلال الوعي بالتكنولوجيا المالية وبناء القدرات أمر مهم لتحقيق الهدف النهائي، وهو رفاهية جميع المصريين دون استبعاد أي منهم.


ترجمة: د. محمود بكري


المدونون
COVID-19
تحديات استدامة الديون في الدول الأعضاء بالبنك الإسلامي للتنمية وسط تشديد شروط التمويل العالمية

COVID-19
الأزمة المصرفية الأمريكية ومخاطر العدوى العالمية

COVID-19
الحافز المنحرف: تلك الكوبرا التي تلدغ التنمية

COVID-19
توطيد بريكس يحدث تحولا في المشهد الاقتصادي والتنموي العالمي

COVID-19
تأثير الأزمات العالمية على الفقر: القياس والاتجاهات والتحديات

Check More Blogs From Abdelrahman Elzahi Saaid Ali

18 Jun, 2023 -Economics and Finance
Abdelrahman Elzahi Saaid Ali | English Article
Significance of Adopting Digital Financial Technologies in Egypt

Introduction Egypt has a growing population of more than 100 million, an increase of more than 7 million since the...

Read