التضخم: كلب الحراسة الذي لم ينبح!

سامي السويلم

18 Jan, 2023

 المحقق غريغوري: هل هناك أي نقطة أخرى تود أن تلفت انتباهي إليها؟ 
 
شرلوك هولمز: الحادثة الغريبة للكلب في الليل. 
 
المحقق غريغوري: الكلب لم يفعل شيئا في الليل. 
 
شرلوك هولمز: تلك هي الحادثة الغريبة! 
 
حوار مقتطف من قصص شرلوك هولمز 

 
هناك أمر غريب بشأن الطريقة التي تتعامل بها السلطات النقدية مع معدلات التضخم المرتفعة حالياً. 
 
وجهة النظر الرسمية هي أن السياسة النقدية المتشددة ضرورية لكبح جماح الطلب واستقرار الأسعار، وأن عدم اتخاذ موقف حازم، قد يخرج التضخم عن السيطرة.  
 
وفي حين أن وجهة النظر هذه محل جدال،1 يحق لنا أن نسأل: لماذا وكيف يخرج التضخم عن السيطرة؟ 
 
التضخم يعني ارتفاع الأسعار. واستنادا إلى المبادئ الأساسية لعلم الاقتصاد، نعلم أنه عندما يرتفع السعر ينخفض الطلب، عند ثبات العوامل الأخرى، وهو ما يجعل السوق تصل إلى وضع التوازن الذي يحقق استقرار الأسعار. ومن المفترض أن تقوم السوق بالتصحيح الذاتي لأي اختلالات من خلال آلية السعر، حيث تكبح الأسعار المرتفعة الطلب الزائد، ويتحقق نتيجة لذلك التوازن بين العرض والطلب. هذه هي الطريقة التي من المفترض أن تعمل بها السوق الحرة على أقل تقدير. 
 
لذلك، عندما نرى أن الجهات المختصة في اقتصادات السوق تشدد السياسة النقدية من أجل السيطرة على التضخم، فإن من حقنا أن نتساءل: لماذا لم تترك السلطات السوق لتصحح نفسها بنفسها؟ 
 
لا بد من وجود سبب لذلك. ولسنا بحاجة إلى “علم الصواريخ” لمعرفة السبب: إن السوق قد لا تنجح في تصحيح نفسها بنفسها. ولكن لماذا؟ نرى أنه، بغض النظر عن أي عوائق إجرائية، فإن العامل الرئيس وراء هذا الإخفاق هو التمويل القائم على الفائدة. 
 
في حالة غياب التمويل، سيؤدي ارتفاع الأسعار إلى كبح جماح الطلب. ولكن بالاعتماد على التمويل، سيتمكن المشترون من تحمل التكاليف الإضافية. وفي ظل الإقراض القائم على الفائدة، يصبح التمويل مرنا إلى حد بعيد في الاستجابة لارتفاع الطلب، وهو ما يجعله يتمدد إلى مستوى يتجاوز بكثير ما تسمح به قوى السوق الطبيعية. 
 
في ظل التضخم ستتمكن الشركات عبر الاقتراض من تحمل التكلفة المرتفعة لمدخلاتها، ثم إضافة تكلفة التمويل إلى أسعار منتجاتها. ويؤدي هذا إلى اقتراض الشركات الأخرى أيضاً وإضافة تكاليفها إلى أسعارها، وهلم جرا. 
 
وعندما تقوم جميع الشركات بهذا الأمر، تنشأ حلقة “مشؤومة” تغذي نفسها بنفسها، ومن ثم يخرج التضخم عن السيطرة. ويمكن أن تنشأ هذه الحلقة المشؤومة حتى في غياب أي عوائق إجرائية من أي نوع، كما يمكن أن تؤدي آلية الفائدة إلى تصاعد التضخم خارج نطاق السيطرة، حتى في وجود المعلومات الكاملة وغياب أي تكلفة للوكالة. 
 
من هنا يمكننا أن نرى لماذا قد تفشل الأسعار المرتفعة في أداء وظيفتها في استعادة توازن السوق. ففي النظام القائم على الفائدة، ستفقد آلية السعر في الغالب القدرة على تحقيق التوازن في السوق، ولذا فإنها تفشل في القيام بدور كلب الحراسة، لأن آلية الفائدة تلغي آلية السعر. 
 
قد تكون السلطات النقدية محقة، ولو بشكل جزئي على أقل تقدير،2 في تطبيق سياسات صارمة للسيطرة على التضخم، لكن هذا يعد اعترافا صريحا بفشل قوى السوق في استعادة التوازن واستقرار الاقتصاد. ولذلك، فإن آلية الفائدة سبب جوهري لفشل السوق، حتى في أنواع الاقتصاد الأكثر كفاءة. 
 

***

ماذا عن التمويل الإسلامي؟ 
 
التمويل الإسلامي تمويل يستند إلى أدوات السوق. فالبيع المؤجل والسلم والإجارة والاستصناع، ونحوها، هي تمويلات ضمن التبادل التجاري، ولذا فهي جزء لا يتجزأ من أنشطة السوق. وتقوم هذه الأدوات بتوسيع نطاق التبادل التجاري، لكنها تظل ضمن حدود السوق. 
 
وفي حين يمكن استخدام أدوات التمويل الإسلامي لتحمل ارتفاع الأسعار، تظل هذه الأدوات مرتبطة بطبيعتها بالسوق. إذ لا يمكن أن يتوسع التمويل في هذه البيئة بما يتجاوز ما تسمح به قوى السوق الطبيعية. ويستثنى من ذلك فقط عندما يتم استخدام التمويل لإعادة تمويل الديون القائمة، كما هو الحال في النظام القائم على الفائدة، حيث يكسر التمويل حدود السوق. 
 
وهذا يفسر الاختلاف الأساسي بين التمويلين الإسلامي والتقليدي، فالأخير لا يفرض أي قيود على نمو التمويل. وفي المقابل، لا يقتصر التمويل الإسلامي على وضع قيود على التمويل فحسب، بل يجعل هذه القيود مستندة بطبيعتها إلى السوق بما يعزز كفاءتها بدلا من تثبيطها كما يفعل الإقراض القائم على الفائدة. 
 
من وجهة نظر اقتصادية بحتة، يجب أن يكون التمويل مرتبطا بالموارد الاقتصادية. وهذا هو المبدأ المتعارف على تسميته بـ “قيد الميزانية بين الفترات الزمنية” في التحليل الاقتصادي الحركي.3 لكن هذا القيد كلي ومجمل بطبيعته. ولكي تتحقق ترجمته إلى المعاملات اليومية، يجب أن يكون التمويل مقيداً بأنشطة السوق، تماما كما هي الحال مع متطلبات التمويل الإسلامي. 

***

   على الرغم من الهالة الإعلامية، فإن النظام القائم على الفائدة يناقض آلية السوق. وهذا ما أدركه منظرو السوق الحرة منذ زمن بعيد، أمثال: آدم سميث، وجون ستيوارت ميل، وألفريد مارشال؛ جميعهم قرر أن البنوك والتمويل بحاجة إلى السلطات التنظيمية خلافاً لأسواق السلع والخدمات الحقيقية. 4 

 
في الواقع، غالبا ما يكون القطاع المالي من بين أكثر قطاعات الاقتصاد خضوعاً للقيود التنظيمية. 5، ولكن ليس كل نوع من القيود يكون مفيداً. إن ما نحتاجه هو “التنظيم الذكي”؛ أي التنظيم الذي يجعل السوق أكثر إنتاجية وديناميكية. وهذا على وجه التحديد ما تهدف أحكام التمويل الإسلامي إلى تحقيقه. 
 
 

1 Stiglitz, J. and I. Regmi (2022) “The Causes of and Responses to Today’s Inflation,” The Roosevelt Institute, December 6. 

2 Sandbu, M. (2022) “A political backlash against monetary policy is looming,” Financial Times, October 23. 

3 Barrow, R. and X. Sala-I-Martin (2003) Economic Growth, MIT Press, p. 93.

4 Cassidy, J. (2009)   How Markets Fail: The Logic of Economic Calamities. Farrar, Straus, and Giroux, pp. 35-36, 163. 

5 Mishkin, F. (2007) The Economics of Money, Banking, and Financial Markets. Alternate edition. Pearson, pp. 42-46.

ترجمة د. محمود بكري 


المدونون
COVID-19
تحديات استدامة الديون في الدول الأعضاء بالبنك الإسلامي للتنمية وسط تشديد شروط التمويل العالمية

COVID-19
الأزمة المصرفية الأمريكية ومخاطر العدوى العالمية

COVID-19
الحافز المنحرف: تلك الكوبرا التي تلدغ التنمية

COVID-19
توطيد بريكس يحدث تحولا في المشهد الاقتصادي والتنموي العالمي

COVID-19
تأثير الأزمات العالمية على الفقر: القياس والاتجاهات والتحديات

COVID-19
صكوك الناتج المحلي الإجمالي المشفرة، من أجل خدمة أفضل للديون في أعقاب كوفيد-19

COVID-19
كوفيد-19: الحاجة إلى المرونة في تعليم التمويل الإسلامي في المملكة العربية السعودية

COVID-19
كوفيد-19 والحاجة إلى نظام اقتصادي جديد

COVID-19
آفاق التمويل الإسلامي بعد كوفيد-19

COVID-19
كوفيد-19 وردة فعلنا كمجتمع مسلم

COVID-19
إطار مستقبلي لعلم الاقتصاد

COVID-19
الدوام الجزئي أو البازوكا الألمانية في مواجهة تبعات أزمة كورونا الاقتصادية

COVID-19
نحو عملة مشفرة تعتمد على “حقوق السحب الخاصة” وتخدم أهداف التنمية المستدامة

COVID-19
شبكة الأمان الاجتماعي ودورها في التخفيف من آثار أزمة جائحة كورونا المستجد (COVID 19)

Check More Blogs From Sami Al-Suwailem

09 May, 2023 -Finance and Economics
Sami Al-Suwailem | مقال بالعربي
تغيير نموذج النظام المالي العالمي

"لا يمكننا تحمل استمرار التعثر من أزمة إلى أخرى" - أنجيلا ميركل (2009م) عنوان هذا المقال هو عنوان خطاب ألقاه في...

قراءة المزيد
05 Apr, 2023 -Finance and Economics
Sami Al-Suwailem | English Article
A Paradigm Change for the Global Financial System

We cannot afford to keep stumbling from one crisis to the next -- Angela Merkel (2009) The title of this...

Read
12 Jan, 2023 -Islamic Finance
Sami Al-Suwailem | English Article
Inflation: The Dog that Did not Bark

Detective Gregory: Is there any other point to which you would wish to draw my attention? Sherlock Holmes: To the curious...

Read