مقدمة
تتعدد المنتجات المالية بتعدد الحاجة إليها، ولئن كانت بعض هذه المنتجات من أسباب الأزمات الاقتصادية عوض أن تسهم في النمو الاقتصادي والازدهار المالي – كما هي الحال مع معظم المشتقات المالية كالتزام الدين المكفول (CDO) والتزام الرهن المكفول(CMO) والتي كان لها الأثر الكبير في اندلاع الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 – فإن بعضها ينعش الآمال في قدرتها على خدمة الغايات النبيلة، وعلى رأسها التنمية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، في حين يركز بعضها على معضلة البيئة، إحدى التحديات الكبرى المعاصرة.
ولما كانت الحكمة ضالة المؤمن، كان لزاما على المصرفية الإسلامية الأخذ منها بطرف ينفع البلاد والعباد، كونها تنتمي إلى عائلة المصرفية الأخلاقية المسؤولة التي تهدف إلى النفعين الدنيوي والأخروي، وذلك بتسخير الهندسة المالية من أجل ابتكار منتجات مالية متوافقة مع الشريعة الغراء.
وعليه فإننا نعرض في هذا المقال بعض المنتجات المالية الجديدة نسبيا، التي ينبغي للمالية الإسلامية أن تولي إصدار بدائل شرعية لها الاعتبار المستحق، بل وتسعى إلى تطوير منتجات مالية أكثر منها نفعا.
السندات الخضراء
تمثل السندات الخضراء مصدر تمويل للمشاريع التي تهدف إلى إحداث تأثير بيئي إيجابي. ومن أبرز الأمثلة على فئات المشاريع المؤهلة لإصدار السندات الخضراء: مشاريع الطاقة المتجددة، وكفاءة الطاقة، والنقل النظيف، والمباني الخضراء، وإدارة مياه الصرف الصحي، والتكيف مع تغير المناخ.
السندات الاجتماعية
زاد زخم السندات الاجتماعية باعتبارها منتجا ذا شعبية متزايدة للدخل الثابت في أعقاب جائحة كوفيد-19، ونشوء الحاجة إلى طرق تمويل جديدة لمعالجة الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية غير المتوقعة. ومن أبرز فئات المشاريع المؤهلة للسندات الاجتماعية: مشاريع الأمن الغذائي وأنظمة الغذاء المستدامة، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، والإسكان ميسور التكلفة، والوصول إلى الخدمات الأساسية كالرعاية الصحية على سبيل المثال.
سندات الاستدامة
سندات الاستدامة هي سندات تهدف حصريا إلى تمويل أو إعادة تمويل مجموعة من المشاريع الخضراء والاجتماعية، وتوفر مجموعة واسعة من الفرص المحتملة. وتشمل فئات المشاريع المؤهلة للحصول على سندات الاستدامة تلك الموجودة عادة في فئتي السندات الخضراء والاجتماعية.
السندات المرتبطة بالاستدامة
السندات المرتبطة بالاستدامة هي أدوات مالية يمكن أن تختلف فيها الخصائص المالية أو الهيكلية أو كلاهما، وذلك حسب الجهة المصدرة التي قد تسعى إلى أن تحقق الاستدامة التي رسمتها سياساتها، أو مجموعة من الأهداف البيئية والاجتماعية وأهداف الحوكمة الرشيدة.
وعلى عكس السندات الخضراء والاجتماعية وسندات الاستدامة، فإن هذه السندات المرتبطة بالاستدامة ليست أدوات قائمة على تمويل المشاريع، إذ لا يتم بموجبها تحويل عائدات الإصدار إلى أغراض خضراء أو مستدامة (كما هو الحال في “استخدام العائدات” في كل من السندات الخضراء والسندات المستدامة) التي يمكن استخدامها لأغراض عامة للشركة إذا كانت سندات شركات، أو من أجل تمويل الميزانية العمومية إذا كانت سندات حكومية. كما أنها تعد أدوات استكمال لإصدارات السندات الخضراء من شأنها أن تمكن المزيد من المصدرين من الوصول إلى سوق التمويل المستدام.
وترتبط هيئات تقديم هذه الأدوات المالية بأداء بعض مؤشرات تحقيق أهداف الاستدامة المحددة مسبقا، بينما تلتزم جهات الإصدار صراحة بتحسين نتائج الاستدامة مستقبلا مع جدول زمني محدد مسبقا، نظراً لأنها أداة قائمة على الأداء المتوقع.
سوق واعدة
من بين جميع السندات المذكورة تهيمن السندات الخضراء، حيث تمثل إلى حد بعيد الحصة الأكبر بنسبة بلغت 47.8٪ من حيث المبالغ المصدرة و61.4٪ من حيث عدد الإصدارات في صفوف السندات الخضراء والاجتماعية وسندات الاستدامة والمرتبطة بالاستدامة في عام 2021م.
ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنها الأكثر ذيوعا في الأسواق المالية، وأن ممارسات ومؤشرات السوق المتعلقة بها متطورة بشكل جيد. وغالبا ما تكون مشاريع البنية التحتية الكبيرة والمباني الخضراء مناسبة تماما لتمويل السندات، في حين يصعُب العثور على مشاريع اجتماعية قابلة للتمويل.
ومقارنة بالسندات الخضراء، غالبا ما يكون تحديد السندات الاجتماعية أكثر صعوبة، وقد يتطلب مؤشرات تراعي عوامل ثقافية وعوامل خاصة أخرى، الأمر الذي قد يسبب بعض التردد لدى المستثمرين في تبني هذا النوع من السندات. وعموما شكلت السندات الاجتماعية 23.5٪ من مجموع مبالغ الإصدار في سوق السندات الخضراء والاجتماعية وسندات الاستدامة والمرتبطة بالاستدامة، و12.8٪ من عدد الإصدارات في عام 2021م.
أما سندات الاستدامة فقد مثلت 21.4٪ من مبالغ السندات الصادرة و18.3٪ من عددها في عام 2021م، إذ يحظى هذا النوع من السندات بشعبية لافتة، وخاصة بين المنظمات التنموية المتعددة الأطراف والجهات الحكومية المصدرة من الدول التي تسعى إلى الحصول على مساعدات من أجل تطوير الاقتصاد والتنمية بها.
وتجدر الإشارة إلى الترابط بين مبادرات التغير المناخي والتنمية في البلدان النامية، إذ إن المزيد من التحليل والبحث سوف يساعد على تحديد أنواع المؤشرات والمشاريع المجمعة التي يمكن أن تكون ذات صلة، بل وتكون دافعا أيضا لإصدار سندات في هذه البلدان.
وعموما فإن قاعدة المستثمرين المهتمين بمثل هذه الأدوات المالية المختصة واسعة بما يكفي لتغطية إصداراتها على أن تكون هيكليتها سلسة وواضحة بما يكفي لتحظى بالقبول والانتشار المطلوبين.
علاقة السندات الخضراء بالمشاركة
تهدف السندات الخضراء إلى تمويل مشاريع خضراء. ولكن لسائل أن يسأل ماذا لو تعثر المشروع ولم يحقق أهدافه؟ الحقيقة أنه وفي هذه الحالة لا تعود السندات خضراء، بل تتحول إلى ديون محضة غير مرتبطة بأي أثر إيجابي ملموس. فالسندات الخضراء إنما هي خضراء بالنظر لما يهدف إليه المشروع الذي تموله هذه السندات وليس بما يتحقق منه فعليا على أرض الواقع.
وعليه فإنه ولكي تكون السندات خضراء ابتداء وانتهاء فإنه يجب على المستثمرين أن يتحملوا مخاطر المشروع، وهو ما يفرض قدرا أكبر من الانضباط والالتزام لتحقيق أهداف المشروعات التي تمولها هذه السندات. وهو ما يدعم أن صكوك المشاركة الإسلامية تحقق أهداف تمويل التنمية المستدامة بشكل أفضل من السندات التقليدية.
وعلى صعيد آخر تتمثل أهم العوائق التي تقف في وجه صكوك المشاركة في توفر بيانات كافية ودقيقة عن أداء المشاريع. وهي معضلة قد تسهم التقنيات الحديثة في تجميع وتدقيق المعلومات إلى حد كبير في حلها.
تجارب الدول الأعضاء
لئن تعددت في الآونة الأخيرة تجارب إصدار السندات الخضراء في القطاع الخاص في الدول الأعضاء، فإن تجارب إصدار السندات الخضراء الحكومية سواء على صعيد الدولة الواحدة أو المنظمات التنموية المتعددة الأطراف ظلت محتشمة نوعا ما ولا ترقى إلى المطلوب منها فضلا عن المأمول. وفيما يلي نعرض بعضاً من أهمها:
تجربة السندات الحكومية لخدمة أهداف التنمية المستدامة في دولة بنين
في يوليو 2021م أصبحت جمهورية بنين أول دولة أفريقية تصدر سندات حكومية لخدمة أهداف التنمية المستدامة. وقد أعدت حكومة بنين إطارا شاملا لأهداف التنمية المستدامة بعد الاستعانة بخبراء في المجال، وتضمنت بعض الميزات البارزة لهذا الإطار تحديد أهداف التنمية المستدامة الأكثر إلحاحا (تم تحديد 49 هدفا) بناء على تحليل التكاليف، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والوكالة الألمانية للتعاون الدولي، بالإضافة إلى اللجوء إلى عملية شاملة لتقييم أهلية المشروع بناء على مساهمته في أهداف التنمية المستدامة.
والتزمت بنين بالحفاظ على كنوز التراث المعماري والطبيعي وتعزيزها، ووافقت على التركيز بشكل خاص على المشاريع التي تهدف إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي، كما أحدثت أيضا شراكة مع شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة لرصد وتقييم التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وتم بيع السندات البالغة قيمتها 500 مليون يورو بمدى إطفاء قدره 12.5 سنة وعائد سنوي 4.95٪، أي أقل بحوالي 20 نقطة أساس من منحنى العائد في بنين. وطبقا لمنظمي الإصدار الماليين، فإن التسعير الإيجابي كان مدفوعا جزئيا بضمانات وآليات لضمان الشفافية في استخدام العائدات، فضلا عن الأثر التنموي المتوقع لهذه السندات.
تجربة إصدار سندات الاستدامة لبنك غرب إفريقيا للتنمية (BOAD)
في يناير 2021، أصدر بنك تنمية غرب إفريقيا أول سندات استدامة في إفريقيا. وتم إصدار هذه السندات لدعم الحكومات من أجل تمويل المشاريع غير التجارية المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة، وذلك في الدول الأعضاء الثمانية في مجلس التنمية المستدامة: بنين، وبوركينا، وكوت ديفوار، وغينيا بيساو، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو.[3]
ويعكس تفضيل بنك تنمية غرب إفريقيا لسندات الاستدامة على السندات الخضراء على سبيل المثال أهمية تلبية احتياجات تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الأسواق الناشئة المتعطشة للحصول على المساعدات الإنمائية الرسمية، والتي تختلف بشكل كبير عن احتياجات أسواق الدول المتقدمة.
ففي حين أن السعي لإزالة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حثيث في الدول المتقدمة، فإن العديد من الأسواق الناشئة غير مهتمة جدا بانبعاثات ثاني أكسيد الكربون أو انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الأخرى، حيث إنها تكافح من أجل التنمية ولا سيما مع المزيد من ضغط تحديات القضايا الاجتماعية، مثل عدم استقرار الغذاء، والتوسع الحضري السريع، والرعاية الصحية، والإسكان الاجتماعي.
كما أن احتياجات التكيف مع تغير المناخ التي تم تناولها في المشاريع الاجتماعية التي تقوم عليها السندات تؤهلها لتكون سندات استدامة، إذ إنها تجمع بين العناصر الخضراء والاجتماعية.
وبلغ حجم الإصدار مبلغ 730 مليون يورو مع استحقاق أفقه 12 عاما، وجذب أكثر من 260 مستثمرا (بنسبة قدرها 75٪ من مديري الأصول)، كما تجاوز الاكتتاب في الصفقة الافتتاحية ستة أضعاف المبلغ المطلوب. وسيطر المستثمرون الأوروبيون بنسبة (80٪)، ثم المستثمرون من الولايات المتحدة بنسبة (17%) على مجموع المستثمرين الكلي.
وكان من عوامل نجاح هذا الإصدار خضوع بنك تنمية غرب إفريقيا لعملية استشارية واسعة النطاق لصياغة العقد الذي شكل إطار عمل هذه السندات. كما أنه أجرى عملية صارمة لتحديد المشاريع المناسبة التي تناسب هذا الإصدار، حيث أعد مجموعة منتقاة من المشاريع التي تجاوزت قيمتها الإجمالية مبلغ إصدار السندات.
صكوك البنك الاسلامي للتنمية
في سياق الدور المهم للتمويل الإسلامي في ضمان الامتثال للجوانب البيئية والاجتماعية والحوكمة المضمنة في مختلف نماذج الأعمال، جمع البنك الإسلامي للتنمية سنة 2019م مبلغ مليار يورو من خلال إصدار صكوك خضراء، كما أصدر لاحقا صكوك استدامة بقيمة 2.5 مليار دولار أمريكي في عام 2021م. وقد استثمرت هذه الأموال في البنية التحتية الخضراء والمرنة بغية خلق الملايين من الوظائف في الدول الأعضاء بغية مكافحة البطالة وخلق فرص التشغيل.
وتعهد البنك الإسلامي للتنمية أنه بحلول عام 2025م ستكون 35٪ على الأقل من عملياته موجهة لتمويل مشاريع تتعلق بموضوع “تغير المناخ”، حيث سيتضمن هذا الالتزام استثمارات في البنية التحتية الخضراء، ولا سيما في الطاقة المتجددة والزراعة المقاومة للتغير المناخي، بالإضافة إلى القطاعات الحضرية والمياه والنقل.
وينبثق هذا من منطلق أن المالية الإسلامية هي بالأساس آليات ومنتجات مدعومة بأصول مالية حقيقية وتهدف إلى مشاركة المخاطر مع اعتبار الأسس الأخلاقية. وعليه، فإنه ينبغي لها أن تخضع أيضا للحوكمة الصارمة وفقا لاعتبارات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، بالإضافة إلى السعي إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة [4,5].
الخاتمة
لئن كانت الخطوة التي قام بها البنك الإسلامي للتنمية رائدة في إصدار صكوك خضراء واستدامة رائدة فإنها تظل وحدها قاصرة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة للدول الأعضاء والمستثمرين على السواء.
ولذلك ينبغي للدول الأعضاء إيلاء إصدار الصكوك الخضراء والاجتماعية وصكوك الاستدامة والمرتبطة بالاستدامة المنزلة التي تستحقها، ذلك أن هذه الأدوات تعتبر مثالية لحشد الموارد اللازمة من أجل دفع عجلة التنمية في الدول الأعضاء من خلال استفادة بعضها من تجارب بعضها الآخر – ولا سيما الدول المتجاورة – في إصدار سندات مشابهة، بالإضافة إلى الاستفادة من تجربتي البنك الإسلامي في إصدار صكوك خضراء وصكوك استدامة.
وختاما فإن نجاح هذه الأدوات المالية رهين استعمال هندسة مالية تسعى إلى خدمة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة مع مراعاة المحافظة على هيكليات سلسة وواضحة تجعلها مقبولة لدى عموم المستثمرين، بالإضافة إلى إيلاء الحفاظ على ميزتها كونها مطابقة للشريعة الإسلامية الأهمية التي تستحق.
مقدمةكتب مارك توين مرة في سيرته الذاتية متحدثا عن زوجته: وبمجرد وصولها إلى "هارتفورد"، كان عدد الذباب كبيرا لفترة من...
Readعبء الديون على البلدان النامية كبير، وخدمة الديون في فترة ما بعد كوفيد-19 التي تمزقها الحروب صعبة. لذلك، فإن كلا...
قراءة المزيدThe debt burden on developing countries is significant and debt servicing in this post-COVID-19 and war-torn era is difficult. Therefore,...
Read