عبء الديون على البلدان النامية كبير، وخدمة الديون في فترة ما بعد كوفيد-19 التي تمزقها الحروب صعبة. لذلك، فإن كلا من صانعي السياسات، والمؤسسات المتعددة الأطراف، قلقون بالفعل بشأن مواطن الضعف الحالية المتعلقة بالديون في جميع أنحاء العالم. فقد كان الدين مرتفعا بشكل مفرط بالفعل قبل إغلاق كوفيد 19 الأول، ثم أضافت الحرب الأوكرانية الراهنة المزيد من المخاطر إلى الاقتراض العام المرتفع، ولا سيما أن الميزانيات الحكومية لم تتعافَ بعد من الوباء.
وبناء على ذلك، فإن واضعي السياسات مطالبون بالتعاون لتخفيف أعباء ديون البلدان الضعيفة، وتعزيز القدرة على تحمل الديون بشكل أفضل، والنظر في الوقت نفسه في مصالح كل من المدينين والدائنين؛ إذ إنه وفقا لقاعدة بيانات الديون العالمية التابعة لصندوق النقد الدولي، ارتفع كل من العجز والديون مع ارتفاع الاقتراض إبان الوباء إلى 256٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، كما ارتفعت تكاليف الديون وخدمتها في البلدان النامية بشكل مطرد في السنوات الأخيرة حيث تواجه حوالي 60٪ من البلدان منخفضة الدخل خطر الإعسار.
مخاوف بسبب زيادة التضخم
على الرغم من أن التضخم قد يقلل من نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي على المدى القصير، فإن جوانب التضخم الثابتة والمتقلبة تزيد من تكلفة الاقتراض على المدى الطويل، وخاصة بالنسبة للبلدان التي لديها آجال استحقاق ديون قصيرة. ولذلك، فإن الوضع في البلدان النامية ينذر بالخطر على وجه الخصوص، لأنها تواجه نقصا مستمرا في الناتج المحلي الإجمالي والإيرادات.
وبالتالي، يستمر الإنفاق الحكومي في الزيادة، وتزداد صعوبة تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ناهيك عن الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والغذاء وتآكل مستويات المعيشة.
علاوة على ذلك، قامت البنوك المركزية العالمية بالفعل برفع أسعار الفائدة بغية إبطاء التضخم، بينما لا تزال الهوامش السيادية في البلدان النامية مرتفعة. ومن المتوقع أن تتزايد عمليات إعادة هيكلة الديون ويتزايد تكرارها، وقد تتطلب إدخال تحسينات مثل استخدام الأدوات المالية التي قد ترضي كلاًّ من الدائنين والمدينين وتساعد في معالجة مخاوفهم.
الإشارات المالية
جزء من التحدي لتحسين خدمة الديون هو أهمية اختيار أداة دين ملائمة. وقبل اقتراح أو تصميم المنتجات المالية التي يمكن استخدامها، نحتاج أولا إلى دراسة وتحليل المتطلبات التي تحتاج هذه المنتجات المالية إلى الوفاء بها.
تحتاج أداة الدين المناسبة إلى معالجة العديد من التحديات، مثل المساعدة في حل مشكلة عدم التوافق، التي وصفها أيشن قرين وهاوس مان (Eichengreen and Hausmann, 1999) بـ “الخطيئة الأصلية”. وعلى وجه التحديد، يعد عدم التطابق في استحقاق الديون والأرباح أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الأزمات المالية وتسببت في ضعف الصناعة المالية، ولا سيما خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008 ((Baily et al., 2008).
وينبغي أن يعالج المنتج المالي المناسب أيضا معضلة الفائدة المتغيرة بنجاح، حيث يمكن أن يتغير سعر الفائدة وتزيد المدفوعات الدورية إلى الحد الذي لا يتمكن المقترض معه من سدادها، وهو أحد العوامل الحاسمة التي أدت إلى أزمة الديون العالمية في الثمانينات وأزمة الرهن العقاري الأمريكية التي تحولت إلى ركود مالي عالمي.
ولذلك، نعتقد أن المنتجات المالية ذات العائد المتغير، ولا سيما تلك المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي، يمكن أن تساعد في معالجة كلتا القضيتين وتشكل بديلا أفضل للسندات التقليدية:
المنتجات ذات العائد المتغير
تظهر المنتجات ذات العائد المتغير مرة أخرى بوصفها أدوات مالية مناسبة لمعالجة هذه المخاوف (Al-Suwailem 2006). وتتضمن مجموعة هذه المنتجات “السندات المرتبطة بالسلع الأساسية”، وهي سندات دين، حيث ترتبط مدفوعاتها مباشرة بسعر السلعة الأساسية، و”أسهم الناتج المحلي الإجمالي”، التي اقترحها روبرت شيلر الحائز على جائزة نوبل لعام 2012.
السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي
اقترح العديد من الاقتصاديين البارزين السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي أو “أسهم الناتج المحلي الإجمالي” أو “Trillsالترديد”، ولقي اقتراحهم هذا دعما واسعا من العديد من البنوك المركزية والمؤسسات متعددة الأطراف مثل بنك إنجلترا وصندوق النقد الدولي (Griffith-Jones 2018).
يتناسب العائد وأصل دين السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي مع الناتج المحلي الإجمالي للبلد المصدِر، ولذلك يمكن للحكومات إصدار سندات مرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي من أجل جمع الأموال والتعهد بالدفع بما يتناسب مع الناتج المحلي الإجمالي، تماما كما تصدر الشركات الأسهم.
إن تحديد خدمة الدين بالتناسب مع الناتج المحلي الإجمالي يعود إلى الثمانينات، حيث حصل على دعم العديد من الاقتصاديين البارزين، مثل روبرت شيلر وجوزيف ستيجليتز، بعد أزمات الديون المتكررة. ومن بين المزايا الجذابة للسندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي أنها قد تسمح للحكومة المصدرة بالاستفادة من تخفيف الديون من جانب واحد إذا كان النمو الاقتصادي منخفضا وانخفض الدخل الضريبي.
على الجانب الآخر، سيتحرر المستثمرون من الارتباط بأسعار الفائدة المنخفضة من خلال التعرض للاقتصاد الحقيقي في حالة انتعاشه ((Benford et al. 2018). كما يمكن تحديد مدفوعات هذه المحفظة بالتناسب مع معدل نمو مجموعة من البلدان المصدِرة في الوقت نفسه (Griffith-Jones 2018).
قد تكون العلاقة بين السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي والاقتصاد جذابة أيضا للمستثمرين، الذين لديهم نية الاستثمار في سندات الأثر الإنمائي كذلك. ومن ثم فإن السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي قد تسمح بتقاسم المخاطر المالية العالمية بشكل أفضل، من خلال تقليل الحاجة إلى عمليات الإنقاذ السيادية الدولية. ومن الجدير بالذكر أن العالم في الوقت الحاضر مرتبط ماليا للغاية، وأن تعثر دولة ما سيكون له تأثير على الدول الأخرى، وخاصة تلك التي ترتبط بها ارتباطا وثيقا اقتصاديا وماليا. أما إذا كانت السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي تعكس النمو الاقتصادي، فإن الأداء الاقتصادي لدولة ما والقدرة على أداء خدمة ديونها من شأنه أن يسهم في تقليل احتمالية التخلف عن السداد وتقليل مخاطر عدوى التخلف عن السداد التي قد تصيب بعض البلدان إذا تخلف بلد معين عن سداد ديونه.
ويمكن لبنوك التنمية متعددة الأطراف أن تؤدي دورا حاسما في تعزيز السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي من خلال تطوير محفظة جذابة من القروض لمجموعة مناسبة من المستثمرين المهتمين بهذا النوع من المنتجات؛ حيث إنه من الضروري تحديد مجموعة المستثمرين المهتمين بمثل هذه المنتجات. ونظرا لأن السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي لها أوجه تشابه مع الأسهم، فقد يكون المستثمرون المحتملون بشكل أساسي مستثمري الأسهم بالإضافة إلى أولئك المهتمين بالمنتجات الهجينة.
صكوك الناتج المحلي الإجمالي: الملاذ للدول الأعضاء؟
البديل المتوافق مع الشريعة لسندات الناتج المحلي الإجمالي هو صكوك الناتج المحلي الإجمالي، وقد تكون ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة للبنك الإسلامي للتنمية؛ إذ إنها هيكلية تستفيد من مزايا تصميم سندات الناتج المحلي الإجمالي والصكوك في الوقت نفسه.
في عام 2018، اقترح بنك إنجلترا إصدار صكوك مرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي للدخل الثابت، مع عائد عند الإصدار مرتبط بالتضخم المتوقع ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للاقتصاد المصدِر، في حين يمكن لاحقا تحديد كل من العائد والمبلغ الأساسي وفقا لشروط عقد الصكوك (Arshadur Rahman, 2018)
ولا يجب أن يكون تصميم الصكوك المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي مختلفا تماما عن تصميم السندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي، بل المهم أن تكون متوافقة مع الشريعة من حيث كونها منتجا ماليا؛ إذ إن الصكوك المرتبطة بتقاسم المخاطر والمرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي هي في الأساس صكوك تستند إلى عقد معياري مثل الإجارة، ولكن مع قسيمة عائد أو أرباح مرتبطة بنمو الناتج المحلي الإجمالي.
الشكل الأساسي هو أن توزيعات الأرباح هي دالة خطية لنمو الناتج المحلي الإجمالي، في حين يتم دفع الجزء الرئيس في صندوق استهلاك (sinking fund)، حيث إن الأمثل أن يتم سداده أيضا على أساس نمو الناتج المحلي الإجمالي.
والبديل الآخر هو توزيع الأرباح الدائمة فقط (perpetual) المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي، التي قد تبدو كأنها حقوق ملكية خالصة (pure equity). وبشكل عام، فإنه كلما كان الهيكل أشبه بحقوق الملكية، زاد تباين التدفقات النقدية، وكان الربح المطلوب بالتالي أعلى.
المرحلة الأولىتوظف الجهة السيادية الأموال التي يتم جمعها من خلال كيان ذو غرض خاص (SPV) لإنتاج بعض الأصول الثابتة (مثل المدارس والمستشفيات والبنية التحتية). |
المرحلة الثانيةتقوم الجهة السيادية بتأجير الأصل من حاملي الصكوك لفترة محددة، ويتم بعد ذلك شراء الأصل بالكامل عند الاستحقاق بمبلغ محدد مسبقا. وتصرف مدفوعات الإيجار الدورية للمستثمرين على أساس عائد متغير يعتمد على الناتج المحلي الإجمالي. |
إن مجموعة المستثمرين المهتمين بالصكوك المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي أكبر من مجموعة المهتمين بالسندات المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي حيث إن الأولى ستشمل المستثمرين المهتمين بالأخيرة، بالإضافة إلى المستثمرين الإسلاميين.
صكوك مشفرة مرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي
الصكوك المشفرة هي نوع من الأصول المشفرة، وهي عبارة عن صيغة رقمية بخاصية الترميز “tokenized” لكل من شهادات الصكوك وشروط العقود الخاصة بها، حيث يمكن إصدارها وتبادلها باستخدام تقنية سلسلة الكتل (البلوكتشين) من خلال منصات معدة لذلك.
ويمكن لصكوك الناتج المحلي الإجمالي المشفرة أن تكون ذات أهمية لكل من المؤسسات المالية الإسلامية الخاصة والعامة، فضلا عن مؤسسات التنمية متعددة الأطراف مثل البنك الإسلامي للتنمية، حيث ينبغي أن يكون إصدار الصكوك وتوزيعها وعمليات التداول المحتملة جديرة بالثقة وأكثر وضوحا وأسهل في التحقق منها. وعلاوة على ذلك، تتيح الصكوك المرمزة أن يكون إصدار الصكوك أقل تكلفة.
ويمكن إصدار الصكوك المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي باستخدام تقنيات دفتر الحساب الموزع (Distributed Ledger Technology)، مثل تقنية سلسلة الكتل (البلوكتشين)، نظرا لأنها أفضل من حيث الحوكمة والكفاءة. ويمكن أن يحقق استخدام تقنية سلسلة الكتل (البلوكتشين) العديد من المزايا، من بينها سهولة المعاملات وسرعتها حيث إنه يمكن لتقنية سلسلة الكتل (البلوكتشين) أن تعزز خدمات الدفع وتحويل الأموال مع تخفيض تكلفة هذه الخدمات.
كما قد تتيح شبكة سلسلة الكتل (البلوكتشين) أيضا أصل المعاملة، بالإضافة إلى إمكانية تتبع المعاملات وخاصية الشفافية. وقد ينظر إلى سلسلة الكتل (البلوكتشين) على أنها تطور تقني يمكنه دعم وتعزيز ميزة الشفافية، التي تعد المبدأ الأساسي لجميع المعاملات في صناعة التمويل الإسلامي (Lacasse et al., 2018).
علاوة على ذلك، تتضمن شبكة سلسلة الكتل (البلوكتشين) خاصية تشفير المفتاح العام وتعتمد شبكة لامركزية بدلا من خادم واحد لتسجيل المعاملات والتحقق منها. فمن حيث المفهوم والمحتوى، تتضمن سلسلة الكتل (البلوكتشين) تطبيقات رياضية تقضي على العناصر المحظورة شرعا، مثل “الغرر”. ومن ثم، فإن عملية التحقق حقيقة بأن يعتمد عليها، وشفافة لجميع المشاركين في الشبكة (Murray et al., 2019).
ومن هذا المنطلق، يمكن لنظام سلسلة الكتل (البلوكتشين) دعم الصناعة المالية الإسلامية في الوصول إلى نطاق أوسع من العملاء. وقد حان الوقت لإحداث تغيير باستخدام الأدوات التي يمكن أن تساعد على إدارة أفضل للديون من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية، على النحو الذي نقترحه من خلال صكوك الناتج المحلي الإجمالي للعملات المشفرة.
[1] هذه المقالة مترجمة عن الإنجليزية لمدونة إلكترونية بعنوان: “ Crypto GDP Sukuk, for better debt servicing in post-COVID-19” ترجمها إلى العربية مؤلفها: د. محمود بكري.
مقدمةكتب مارك توين مرة في سيرته الذاتية متحدثا عن زوجته: وبمجرد وصولها إلى "هارتفورد"، كان عدد الذباب كبيرا لفترة من...
Readمقدمة تتعدد المنتجات المالية بتعدد الحاجة إليها، ولئن كانت بعض هذه المنتجات من أسباب الأزمات الاقتصادية عوض أن تسهم في...
قراءة المزيدThe debt burden on developing countries is significant and debt servicing in this post-COVID-19 and war-torn era is difficult. Therefore,...
Read