مقدمة
كتب مارك توين مرة في سيرته الذاتية متحدثا عن زوجته: وبمجرد وصولها إلى “هارتفورد”، كان عدد الذباب كبيرا لفترة من الوقت، ومزعجا إلى درجة أنها فكرت في دفع مكافأة لـ “جورج” عن الذباب الذي يقتله. وحينها رأى الأطفال ذلك فرصة للكسب مفاجئة! لقد كان بإمكان أي حكومة أن تخبرها أن أفضل طريقة لزيادة الذئاب في أمريكا، والأرانب في أستراليا، والثعابين في الهند، هي دفع مكافأة لمن يأتي برأسها حتى يسعى كل مواطن إلى تربيتها!
الحافز المنحرف
يشير مصطلح الحافز المنحرف المستخدم في الاقتصاد والسياسة إلى الحافز الذي يؤدي إلى نتيجة غير مقصودة وغير مرغوب فيها وتتعارض مع نوايا مصممي الحافز، لأنه يكافئ الناسَ عن غير قصد على جعل قضية ما أسوأ. ويسعى هذا المصطلح إلى توضيح كيف يمكن أن يتسبب التحفيز غير الصحيح في عواقب غير مقصودة، تماما كما أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.
شاع في العلوم الاجتماعية مصطلح العواقب غير المقصودة (أو غير المتوقعة) في القرن العشرين على يد عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون، ويراد بهذا المصطلح النتيجة غير المتوقع حدوثها وغير المقصودة من عملية أو فعل ما، ويمكن تقسيمها إلى: (1) فائدة إيجابية غير متوقعة. (2) عيب غير متوقع: وهو التأثير الجانبي السلبي لتخطيط أو سياسة ما. (3) نتيجة منحرفة: وهو حدوث عكس ما كان مرجوا حين يزيد الحل المرجو المشكلة تعقيدا وسوءا.
أدرج روبرت ميرتون عام 1936م خمسة أسباب محتملة للعواقب غير المتوقعة: (1) الجهل، لأن من المستحيل توقع كل شيء. (2) الأخطاء التي تقع عند تحليل المشكلة وتنعكس على اختيار الحل المناسب. (3) المصالح قصيرة المدى التي تغلب على المصالح طويلة الأمد. (4) القيم التي تمنع إجراءات معينة، حتى لو كانت النتيجة على المدى الطويل غير محبذة. (5) التوقع الخاطئ لوقوع مشكلة – تدفع لإيجاد حلول للمشكلة – لم يُتوقع أنها لن تحدث بالأساس.
تأثير الكوبرا
صاغ الخبير الاقتصادي الألماني هورست سيبرت مصطلح “تأثير الكوبرا” لوصف أحد الأمثلة عن تأثير “الحافز المنحرف” بناء على حادثةٍ زعم الرواة أنها وقعت في الهند أثناء الحكم البريطاني عندما عرضت الحكومة البريطانية، التي كانت تشعر بالقلق إزاء عدد الكوبرا السامة في دلهي، مكافأة لكل أفعى كوبرا ميتة. وفي حين كانت هذه إستراتيجية ناجحة في البداية بأن تم قتل أعداد كبيرة من الثعابين من أجل المكافأة، فإن العديد تحول في النهاية إلى تربية الكوبرا من أجل المكافأة، حتى علمت الحكومة بذلك فألغت البرنامج. وهذا جعل الثعابين بدون قيمة بالنسبة للمربين فأطلقوها، ولكن عدد الكوبرا كان قد زاد بالفعل لتزداد المشكلة سوءا.
كوبرا أم فأر؟
حدثت حالة مشابهة في هانوي في فيتنام تحت الحكم الفرنسي عندما أنشأ الأخير برنامج مكافآت لكل جرذ مقتول، طالبا من كل من يريد نيل المكافأة أن يحضر ذيل الفأر برهانا على ذلك. وبعد مدة بدأ المسؤولون يلاحظون وجود الفئران مقطوعة الذيل في هانوي حيث كان صيادوها يمسكونها ويقطعون ذيلها ثم يطلقوها مرة أخرى في المجاري لتتكاثر من جديد وبالتالي يتضاعف العدد وتستمر المكافآت.
الكوبرا المالية
الحوافز المنحرفة لا تؤثر فقط في عدد الثعابين والفئران. إحدى الوقائع عاشها عالم المال، ففي أواخر عام 2004م خضعت شركة “فاني ماي” لتحقيق بشأن ممارساتها المحاسبية عندما اكتُشف أنه بسبب اتخاذ قرار بمكافأة المديرين التنفيذيين أعلنت الشركة عن أرباح أعلى وسعى المديرون إلى تضخيم بيانات الأرباح واتخاذ قرارات تستهدف المكاسب قصيرة الأجل على حساب الربحية طويلة الأجل.
حادث مشابه شهدته “ولس فارغو” التي عانت من فضيحة الاحتيال في الحسابات عندما فرضت عام 2016م – بهدف زيادة عدد الحسابات البنكية المباعة – أهدافَ مبيعات طموحة جدا ينبغي لموظفيها تحقيقها وإلا واجهوا خطر فقدان وظائفهم، مما حدا ببعضهم إلى فتح أعداد كبيرة من الحسابات غير المصرح بها ليتحول البنك إثر ذلك إلى التحقيق.
الكوبرا الخضراء!
على الرغم من أن الاقتصاد الأخضر يعد أخلاقيا كونه التزاما بالحفاظ على البيئة والمحيط، فإن ذلك لم يجعل الحوافز المنحرفة تخطئ طريقها إلى مبادراته مسببةً نتائج عكسية؛ أحدها يتمثل في حادثة برنامج تحفيز حافز الحرارة المتجددة (RHI) الحكومي بإيرلندا الشمالية، وهو عبارة عن مخطط مدته 20 عاما يهدف إلى تشجيع الشركات على تقليل استخدام الطاقة وتعزيز التحول إلى المصادر الخضراء للطاقة. وكان خطأ المخطط في أن دعم الطاقة المتجددة كان أكبر من تكلفتها، مما سمح للشركات بتحقيق ربح من خلال التحول إلى المصادر الخضراء ومن ثم زيادة استخدام الطاقة بدل تقليص ذلك، بل لجأ بعضها إلى تحصيل الحافز عن طريق تدفئة مبان فارغة!
وهذا شبيه بحادثة أخرى وقعت في عام 2005م حين أطلقت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ خطة حوافز لخفض غازات الاحتباس الحراري وقررت مكافأة الشركات التي تتخلص من الغازات الملوثة من خلال هبتها أرصدة كربون يمكن تحويلها إلى نقد. وحدد البرنامج جدول مكافآت وفقا لمدى ضرر الغاز، كان على رأس قائمته غازHFC-23، وهو منتج جانبي محصل من غاز التبريد .HCFC-22
وكانت النتيجة عكسية بعد أن سعت الشركات إلى إنتاج المزيد من سائل التبريد من أجل إعدام الغاز الجانبي، وبالتالي تحصيل ملايين الدولارات من المكافآت. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تسبب الإنتاج المتزايد أيضا في انخفاض سعر غاز التبريد بشكل كبير، الأمر الذي حفز شركات التبريد على الاستمرار في استخدامه رغم آثاره البيئية الضارة.
تفادي الحافز المنحرف في العقود
الطريق إلى تفادي أخطار الحوافز المنحرفة في المشروعات والمبادرات والبرامج يكمن بدرجة كبيرة في إحكام العقود بين طالب الخدمة وموفرها والجهة الممولة أو المانحة بما يخدم المستفيدين من الخدمة الاستفادة التامة ويمنع وقوع نتائج عكسية.
عقود الوكالة
ينبغي الحرص على تفادي أضرار الحوافز المنحرفة في عقود الوكالة التي يعتمد فيها الموكِّل على وكيل لتحقيق أهداف معينة، لأنه قد يسعى لخدمة مصلحته الذاتية بتغليبها على مصالح الموكِّل، وتنشأ نتيجة لذلك حالة من تضارب المصالح. كما تنشأ أخطار أخلاقية من الوكالة عندما يضمن الوكيل امتيازاته من العقد، ومن ثم يحدو به ذلك إلى الإهمال وعدم بذل الجهد الكافي. وعليه وتفاديا لذلك، ينبغي – علاوة على وضع آليات الرقابة المناسبة للتأكد من تغليب مصلحة الموكِّل – تصميم الحوافز المناسبة والتأكد من عدم انحرافها على نحو يضمن أداء الوكيل لعمله بكفاءة.
عقود الشراكة
ينبغي التنبه إلى تأثير الحوافز المنحرفة في عقود الشراكة، ولا سيما تلك التي تتضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص بعدم الاقتصار على جعل المقاول مسؤولا عن ضمان التنفيذ الفعال للمشروع فحسب، بل مسؤولا أيضا عن مرحلة التشغيل والصيانة، مما يمكّن من تفادي السلوك الانتهازي الذي قد يتضمن تجاوزات في التكاليف وسوء تقييم الفائدة المرجوة من المشاريع المنفذة.
ومن الأمثلة التي ينبغي التفطن إليها أيضاً الأحداث الرياضية الكبرى المتكررة التي تمولها الحكومات على أساس كونها سلعا عامة، حيث غالبا ما يسعى المنفذون إلى المبالغة في حجم القيمة الاقتصادية لهذه الأحداث والتقليل من أهمية التقييمات الأولية للتكلفة، إضافة إلى مخاطر التحيز كالإفراط في التفاؤل عند تقييم مخرجات المشروع مما قد يؤدي إلى اختيار خاطئ وهدر للمال العام الذي ينبغي الاستفادة منه إلى أقصى حد.
تفادي الحافز المنحرف في المساعدات التنموية
يمكن لمشاريع المساعدات التنموية – من قبيل الهبات أو تمويلات القرض الحسن – أن تخلق حوافز منحرفة تؤدي إلى نتائج عكسية سلبية، وذلك أنه من السذاجة بمكان الاعتقاد أن ينظر جميع المعنيين بمخطط أو مشروع يهدف إلى الصالح العام بمثالية.
ومثل هذا قد يتسبب في العديد من المخاطر الأخلاقية، من قبيل ألا يمول المال المرصود المشاريع التي قصد المانحون تمويلها، أو أن توافق الجهات المانحة على مشاريع غير قابلة للتطبيق، وهي أمور شائعة للأسف. كما يمكن أن يكون للمقاولين تأثير سلبي مؤثر ينبغي التفطن له، وخاصة إذا كانت لهم مصلحة في تمرير مشاريع معينة يتم اختيارها أو إطالة تنفيذها. ذلك أن المقاول عادة ما يكون حلقة الوصل بين الجهة المستفيدة من المشروع والجهة الممولة، وهو بذلك من يتحكم في تدفق المعلومات في كلا الاتجاهين. كما قد تؤدي الحوافز المنحرفة التي خلقتها المساعدات التي تهدف إلى تنمية المجتمع المتلقي لها دون قصد إلى تحويله على النقيض إلى مجتمع أكثر اعتمادا على المساعدات الخارجية.
كيف نقضي على الكوبرا؟
يتبين مما سبق أهمية أن تكون الجهات المانحة على دراية كافية بالحوافز التي تخلقها المشاريع، فيجب تحليل العلاقات المتعددة في مشروع أو مبادرة ما بشكل صحيح لمعرفة كيف يمكن للحوافز المنحرفة أن تؤثر سلبا على المشاريع وبرامج الإعانة المزمع تمويلها وتنفيذها؛ إذ إن الحوافز المنحرفة التي لا تؤخذ مسبقا بعين الاعتبار يمكن أن تؤدي إلى مشاريع تنموية غير ناجحة، وإهدار للمال العام وأموال المانحين وإلى نتائج عكسية، بل وربما أيضا كارثية.
ويتسنى بعض ذلك من خلال مشاركة المستفيدين المحليين في تخطيط وتنفيذ هذه المشاريع، سواء باشتراط أن يشاركوا في ملكية بعض أصولها أو المساهمة في تمويلها أو تنفيذها بنسبة معينة، كما يمكن ربط الحوافز المرصودة لهم بمسؤوليات واضحة ونتائج ملموسة تخضع للتقييم الموضوعي كما هي الحال مع نموذج التمويل القائم على النتائج (Result-based financing)على سبيل المثال.
يبقى أن نشير إلى أن الآمال في “هندسة تنموية” مؤثرة تعتمد تطبيقا سليما لنظرية الحوافز ستظل رهينة أداء المؤسسات المحلية في البلدان المستفيدة التي قد تتسم بضعف الأداء وجملة أخرى من النقائص. وعليه، فإنه ينبغي توظيف جملة من الآليات المناسبة لدعمها، كإجراء مراجعات من طرف ثالث محايد للمشاريع والمساعدات، وتمكين المستفيدين من فرصة للتعبير عن آرائهم (من خلال تنظيم جلسات استماع على سبيل المثال)، وإجراء تقييمات منتظمة متتابعة للتعرف على التأثير التنموي الحقيقي للمشاريع والمساعدات، والتحقق من عدم وجود حوافز منحرفة ينبغي حينئذ في الإبان معالجتها وتعديلها إلى حافز إيجابي.
مقدمة تتعدد المنتجات المالية بتعدد الحاجة إليها، ولئن كانت بعض هذه المنتجات من أسباب الأزمات الاقتصادية عوض أن تسهم في...
قراءة المزيدعبء الديون على البلدان النامية كبير، وخدمة الديون في فترة ما بعد كوفيد-19 التي تمزقها الحروب صعبة. لذلك، فإن كلا...
ReadThe debt burden on developing countries is significant and debt servicing in this post-COVID-19 and war-torn era is difficult. Therefore,...
Read