تحديات استدامة الديون في الدول الأعضاء بالبنك الإسلامي للتنمية وسط تشديد شروط التمويل العالمية

محمد زولخبيري, شيخ احمد ديوب, نوفيا بودي باروانتو

09 May, 2023

مقدمة

أدى ارتفاع التضخم الذي أعقب التعافي من الركود العالمي لعام 2020م إلى تشديد السياسة النقدية في العديد من الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، وهو ما تسبب في تفاقم تحديات تمويل التنمية المستدامة.

وفي ظل هذه الأجواء، استمرت أوضاع الديون في البلدان النامية في التدهور خلال العقد الماضي؛ حيث تعاني أكثر من نصف البلدان منخفضة الدخل من ضائقة ديون بالفعل أو تتعرض لمخاطر ديون عالية، وتظهر نسبة 10٪ فقط منها مخاطر ضائقة ديون منخفضة (صندوق النقد الدولي، أغسطس 2022). وعلاوة على ذلك، فإن خطر انتشار ضائقة الديون وانتقالها إلى البلدان المتوسطة الدخل آخذ في الازدياد (Estevão and Essl, 2022).

ومن بين الـ 28 دولة من الدول الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية المصنفة ضمن البلدان منخفضة الدخل، تواجه دولتان فقط مخاطر منخفضة لضائقة الديون (debt distress) (وهي: بنغلاديش وأوزبكستان)، بينما تعاني بالفعل أربعة بلدان أعضاء من ضائقة الديون (وهي: تشاد وموزمبيق والصومال والسودان)، في حين أن عشر دول معرضة لمخاطر مرتفعة لضائقة الديون (وهي: أفغانستان والكاميرون وجزر القمر وجيبوتي وغامبيا وغينيا بيساو وجزر المالديف وموريتانيا وسيراليون وطاجيكستان). وهذا ما يعني أن نصف البلدان الأعضاء المنخفضة الدخل معرضة على الأقل لمخاطر مرتفعة لضائقة الديون، الأمر الذي يهدد بأزمة ديون واسعة النطاق تجتاح جميع البلدان الأعضاء البالغ عددها 57 دولة جراء الآثار التي قد تجرها العدوى.

وتبحث هذه الورقة التحولات الأخيرة في السياسة النقدية لاحتواء التضخم المتزايد، والتأزم اللاحق في ظروف التمويل العالمية، وآثارها المحتملة على القدرة على تحمل الديون في الدول الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية.


تشديد السياسة النقدية استجابة لارتفاع التضخم

ارتفعت معدلات التضخم في أرجاء العالم لأول مرة منذ سنوات، مما جعل الأسعار أقل استقرارا مقارنة بسنوات ما قبل الوباء. وارتفعت الأسعار في الولايات المتحدة بنسبة 8.5٪ على أساس سنوي في يونيو 2022م، بينما ارتفعت في البلدان التي تعاني بالفعل من تضخم مرتفع للغاية، مثل تركيا والأرجنتين، بأكثر من 50٪. وتجاوزت جميع الكيانات الاقتصادية وأغلبية بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية تقريبا الأرقام المستهدفة من البنوك المركزية بحلول أوائل عام 2022م، حيث تجاوز التضخم 5٪ في أكثر من ثلاثة أرباع بلدان الكيانات الاقتصادية والبلدان الصاعدة والبلدان النامية (الشكل 1).



الشكل 1. التضخم العالمي لأسعار المستهلك

Sources: World Bank (2022); Bank of International Settlements (2022); author’s compilation


Sources: World Bank (2022); Bank of International Settlements (2022); author’s compilation


المصدر: البنك الدولي (2022)، وبنك التسويات الدولية (2022)، وتجميع المؤلفين.

ونظرا إلى الديناميكيات الأساسية للتحولات من أنظمة التضخم المنخفض إلى المرتفع فإنه لا يمكن التقليل من مخاطر تطور دوامات أسعار الأجور، إذ يزداد خطر انحراف توقعات التضخم عن الأرقام المستهدفة من البنك المركزي، الأمر الذي يدفع صناع السياسة إلى تشديد الشروط النقدية بشكل أكبر. ويتمثل أحد المخاوف المصيرية لاختيار هذه السياسة في مدى قدرة صانعيها على تصميم هبوط سلس، أي انكماش الدورة الاقتصادية دون أن يؤدي ذلك إلى الركود.

وبالفعل بدأت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم في تشديد السياسة النقدية بحزم في ردة فعلها تجاه التضخم الهائل وبغية تقليل ضغوط الأسواق المالية. ونتيجة لذلك، تستمر العوائد على السندات الحكومية في النمو في العديد من أكبر الاقتصادات في العالم.

يعرض الجدول 1 بعض التغييرات الأخيرة في معدلات السياسة للبنوك المركزية في الكيانات الاقتصادية، وبلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية، والدول الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية.


الجدول 1: التغيرات في أسعار الفائدة في مجموعة مختارة من الكيانات الاقتصادية والصاعدة والبلدان النامية، 2022م

Sources: World Bank (2022); Bank of International Settlements (2022); author’s compilation


المصدر: صندوق النقد الدولي (2022)، وتجميع المؤلفين.

ونظرا لأهمية الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي، فإن التغيرات في السياسة النقدية الأمريكية لا تؤثر فقط على الظروف المالية المحلية، ولكن أيضا على الظروف المالية ومعنويات الاستثمار في الاقتصادات العالمية والأسواق المالية (Albagli et.al,2019).

وبالإضافة إلى ذلك، فقد ازداد ضغط الأوضاع المالية بشكل كبير في الكيانات الاقتصادية، ولا سيما في منطقة اليورو، وفي غالبية بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية نتيجةً لزيادة أسعار الفائدة من أجل السيطرة على التضخم، وارتفاع تكاليف الاقتراض الخارجي، وانخفاض قيمة العملة، وتراجع أسواق الأسهم، وتدفقات المحفظة النقدية الخارجة، وارتفاع علاوات المخاطر.

وأدت الضغوط التضخمية في الكيانات الاقتصادية الكبرى وبلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية إلى ارتفاع عائدات السندات عالميا. وبعد إصدار محضر اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة لشهر ديسمبر في أوائل يناير، ارتفعت المعدلات طويلة الأجل بالتوازي عبر جميع الكيانات الاقتصادية. كما ارتفعت عائدات السندات بالتوازي مع توقعات التضخم في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، وعلى وجه الخصوص في أمريكا اللاتينية التي بلغت فيها الضغوط التضخمية أعلى مستوياتها.

وقد كان الدولار الأمريكي منذ عام 2022م قد عزز مكاسبه مقابل عملات البلدان المصدرة غير السلعية وهي الأقل تقدما خلال فترة انكماش الدورات الاقتصادية، ولذا فقد يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تدفق كبير لرأس المال خارج البلدان النامية، وسيكون من شأن تواصل تدفقات رأس المال إلى الخارج أن تزيد من مخاطر مشاكل تمديد الديون وانخفاض قيمة العملة المحلية، ولا سيما بالنسبة للاقتصادات ذات مستويات الديون غير المستدامة والعجز المزدوج (twin deficits).


ارتفاع أعباء الديون

نمت مستويات الدين على مدار أكثر من عقد، مدفوعة ببيئة منخفضة الفائدة في أعقاب الركود العالمي عام 2009م، الأمر الذي جعل اقتراض الأموال أقل كلفة نسبيا. وارتفع متوسط الدين العام للكيانات الاقتصادية من 71٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2007م إلى 104٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2019م (الشكل 2 أ)، كما ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ، إذ كانت في حدود 36٪ في عام 2007م وبلغت 54٪ في عام 2019م.

أما في عام 2020م فقد ارتفعت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بشكل حاد لتصل إلى 123٪ و64٪ في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية على التوالي، مما يعكس ارتفاع مخزون الديون وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي وسط الركود العالمي الذي سببه الوباء.

ولوحظت اتجاهات مماثلة في البلدان الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية، فقد ارتفع متوسط نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في الدول الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية من 31٪ في 2007م إلى 42٪ في 2019م، قبل أن يرتفع مجددا إلى 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2020م. ومع ذلك فإنه لا يزال أقل بكثير من متوسط بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية. ويظهر مستوى الدين العام المنخفض نسبيا في البلدان الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية بشكل أساسي التعرض المعتدل للديون السيادية للبلدان الأعضاء المصدرة للوقود. ومع ذلك فقد تضاعفت بين عامي 2014م و2021م نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الأعضاء المصدرة للوقود بأكثر من ثلاثة أضعاف، إذ قفزت من حوالي 13٪ لتبلغ 42٪، وهو ما يظهر صعوبة التكيف مع انخفاض أسعار النفط.


الشكل 2. الاتجاهات في مستويات الدين العام والخارجي

Sources: World Bank (2022); Bank of International Settlements (2022); author’s compilation


Sources: World Bank (2022); Bank of International Settlements (2022); author’s compilation


المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي وأداة بيانات وحدة المعلومات الاقتصادية، أبريل 2022م

ومن حيث الدين الخارجي، لا يزال متوسط الدين الخارجي (بالنسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي) للبلدان الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية، الذي وصل إلى 47٪ من إجمالي الناتج المحلي في عام 2021م، أعلى بكثير من متوسط بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية البالغ 31٪ (الشكل 2 ب). واتسعت الفجوة بين متوسط الدين الخارجي (بالنسبة المئوية من الناتج المحلي الإجمالي) للدول الأعضاء للبنك الإسلامي للتنمية والأسواق الصاعدة والبلدان النامية منذ عام 2015م، لتصل إلى 16 نقطة مئوية في عام 2021م. كما زادت بحدة الديون الخارجية للبلدان الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية بشكل عام، لتشمل جميع كتل بلدان البنك الإسلامي للتنمية، ما عدى البلدان الأقل نموا، بيد أن الزيادة كانت أكثر حدة بالنسبة للبلدان المصدرة للوقود. أما بالنسبة للبلدان المصدرة للوقود، فقد تضاعفت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي تقريبا، من 25.6٪ إلى 50.1٪ بين عامي 2014م و2020م، في حين ارتفعت النسبة من 37٪ إلى 49٪ بالنسبة للبلدان غير المصدرة للنفط.

ومع تزايد الدين العام الخارجي، بشروط غير ميسرة بالأساس، فإنه من المتوقع أيضا أن يزداد العبء على الحسابات المالية والحسابات الخارجية، ولا سيما عندما تشتد الظروف المالية العالمية. وهذا ما يزيد من مخاطر الاختلالات في الاقتصاد الكلي، فضلا عن تحول الموارد من الإنفاق الاجتماعي ذي الأولوية إلى خدمة الدين.


الخاتمة

شهدت مستويات الديون في العديد من بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية مسارا غير مستدام على مدى العقد الماضي ضمن سياق عالمي شهد انخفاضا في أسعار الفائدة، ويتضح ذلك من أعباء الديون المتراكمة والمخاطر المتزايدة لضائقة الديون. وأدت الصدمات السلبية المتعددة منذ عام 2020م، وتحديدا جائحة كوفيد -19 وأزمة أوروبا الشرقية، إلى مزيد من الضغط على الحيز المالي (fiscal policy) وفاقمت من ديون بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية بشكل عام والبلدان الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية على وجه الخصوص. وعليه، تدعو العديد من الجهات الفاعلة في المشهد التنموي بغية تخفيف عبء الديون إلى مبادرة جديدة تهدف لمنع حدوث أزمة ديون كبيرة في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية. وهو ما يشير إلى أن تأثير التخفيف المؤقت الذي قدمته مبادرة تعليق خدمة الديون لمجموعة العشرين (DSSI) اقتصر على تأخير الأزمة فحسب، في حين أن هناك حاجة إلى حلول أكثر استدامة وقوة.

إن تعدد الدائنين، وخاصة من القطاع الخاص، صيّر إعادة هيكلة الديون أكثر صعوبة مما كانت عليه في الماضي. وفي هذا الصدد، قد يستلزم التقدم المحدود في طرح إطار مشترك لمعالجة الديون تمديد مبادرة DSSI لفترة أطول ونطاق أوسع من البلدان المؤهلة حاليا. وبناء عليه، فستحتاج العديد من البلدان الأعضاء المثقلة والمعرضة إلى الديون إلى ضبط الأوضاع المالية العامة على المدى المتوسط. وبطريقة مماثلة، يعد توجيه الإنفاق الحكومي وتحسين سياسات إدارة الديون أمرين حاسمين للجميع من أجل تعزيز القدرة على الصمود ضد عدوى محتملة منشؤها بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية الأخرى.


ترجمة: د. محمود بكري


المدونون
COVID-19
الأزمة المصرفية الأمريكية ومخاطر العدوى العالمية

COVID-19
الحافز المنحرف: تلك الكوبرا التي تلدغ التنمية

COVID-19
توطيد بريكس يحدث تحولا في المشهد الاقتصادي والتنموي العالمي

COVID-19
تأثير الأزمات العالمية على الفقر: القياس والاتجاهات والتحديات

COVID-19
A Paradigm Change for the Global Financial System

Check More Blogs From Muhamed Zulkhibri

03 Apr, 2023 -Islamic Finance
Muhamed Zulkhibri | English Article
The Challenge of Debt Sustainability in IsDB Member Countries amid Tightening Global Financing Conditions

Introduction The surge in inflation that followed the recovery from the 2020 global recession has prompted monetary tightening in several...

Read
07 Mar, 2022 -
Muhamed Zulkhibri | English Article
Climate-Related Risk and Vulnerabilities in IsDB Member Countries: The Role of Insurance/Takaful Sector

Introduction Climate change is a systemic risk for the whole world. Due to the growing frequency and intensity of extreme...

Read