ترويض التضخم: من منظور التمويل الإسلامي

سامي السويلم

27 Sep, 2022

التضخم مشكلة رئيسة تعاني منها الاقتصادات الحديثة، انتقلت على مر السنين من النقيض إلى النقيض؛ من “التضخم الكبير” في الستينات والسبعينات إلى “موت التضخم” و”أسطورة التضخم” في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وإلى “وحش الانكماش” في عام 2010، ومؤخرا إلى “أكبر موجة تضخم منذ أكثر من 30 عاما“. وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في النظريات والسياسات النقدية، ما زلنا غير قادرين على السيطرة على التضخم.

وتميل العديد من دراسات التضخم إلى إغفال الأهم لصالح المهم؛ حيث تركز في الغالب على التفاصيل الفنية وتميل إلى تضييع الصورة الشاملة. ونريد هنا أن نلقي نظرة على الصورة الشاملة.


التضرع إلى الله من التضخم

كان من المعتاد تضرع الخطيب في كل صلاة جمعة إلى الله تعالى بأن يحفظ المجتمع من الغلاء. وعلى امتداد التاريخ غالبا ما يرتبط انخفاض الأسعار بوفرة السلع والخدمات وبالتالي بالازدهار، بينما يرتبط ارتفاع الأسعار غالبا بالوضع المضاد.

من ناحية أخرى، يتضرع محافظو البنوك المركزية كذلك إلى المولى بالدعاء، حرصاً منهم على إبقاء معدل التضخم في حدود 2-3٪ سنويا، حيث إنه من المؤكد أن إبقاء التضخم تحت السيطرة يأتي على رأس اهتماماتهم، وربما تضرعاتهم.

لماذا أصبح ارتفاع الأسعار اليوم مهما لاقتصاد مستقر؟ يجب أن تكون النقود مستقرة، لكن هذا يتطلب استقرار الأسعار وعدم انخفاض قيمتها باستمرار. ولقد اعتدنا على بيئة كهذه لدرجة أننا قد نفشل حتى في طرح هذا السؤال. وللإجابة عن السؤال، علينا أن ننظر إلى الجانب الآخر من المعادلة: وهو الدَّين.


فتّش عن الدين

لفهم سبب تخوف البنوك المركزية من انخفاض الأسعار أو الانكماش، نحتاج إلى فهم انكماش الديون Debt Deflation. وقد صاغ هذا المصطلح الاقتصادي الأمريكي البارز إيرفينغ فيشر (Irvine Fischer) في 1932-1933، في أدنى مستويات الكساد الكبير، حيث يرى بأن الاضطرابات في مستويات الديون والأسعار تضطلع بأدوار أكثر أهمية في فترات الازدهار والكساد من باقي العوامل الاقتصادية الأخرى مجتمعة. ويمكن تلخيص العلاقة بين هذين العاملين على النحو التالي:

عندما يواجه المدينون صعوبات في الوفاء بالتزاماتهم، فإنهم يشرعون في بيع أصولهم لسداد ديونهم المستحقة. ويؤدي تعجل البيع إلى انخفاض أسعار الأصول، ويؤدي انخفاض الأسعار إلى خفض صافي ثروة المدينين، مما يجعل من الصعب عليهم (إعادة) تمويل مواقعهم، ثم إلى جولة أخرى من تعجل البيع، الذي يفضي بدوره إلى جولة أخرى من خفض الأسعار، وهكذا دواليك. وفي الوقت الذي يحاول المدينون فيه البيع لسداد ديونهم المستحقة بشكل جماعي، فإنهم عن غير قصد، يجعلون عبء ديونهم أكبر. ويوضح ذلك فيشر بقوله:

    “ثم نصطدم بالتناقض الكبير الذي أعتبره السر الرئيس لمعظم حالات الكساد الكبير إن لم يكن جميعها؛ فكلما حرص المدينون أكثر على السداد، زادت ديونهم، وكلما مال القارب الاقتصادي ازدادت نزعته إلى الميلان إلى أن ينقلب”.



وباختصار، فإنه عندما يقوم الاقتصاد على تمويل الديون، فإن فترة الانكماش تكون خطيرة لسببين:

1. أن قيمة ضمان المدينين تنخفض، وهذا يجعلهم أقل قدرة على الوفاء بالتزاماتهم.

2. أن ​​دخل الأعمال التجارية ينخفض، نظرا لأن العملاء الآن يدفعون دولارات أقل للحصول على السلع والخدمات ذاتها. وبينما ينخفض ​​الدخل الاسمي لا تنخفض التزامات الديون، وبالتالي فإن العبء الحقيقي للديون يزداد، وهذا يؤدي إلى الوقوع في الضائقة والتخلف عن السداد.

لقد أثبتت نظرية انكماش الديون منذ ظهورها عام 1933 بشكل عام أنها صائبة في العديد من الحالات، وظهر ذلك بشكل جلي خلال الأزمة المالية العالمية.

وفي الآونة الأخيرة، صرح رئيس نظام الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، قائلا: ” التضخم دون الهدف (Below-target inflation) يزيد من القيمة الحقيقية للديون المستحقة على الأُسر والأعمال، ويقلل من قدرة البنوك المركزية على الاستجابة لحالات الركود”.

ويتم استهداف التضخم في الغالب من خلال ضخ الأموال في الاقتصاد، مما يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة. وفي حين تستخدم هذه العملية بشكل متكرر لتجني الحكومات ثمارها، فإن السبب الحقيقي الذي يجعل السلطات تميل إلى زيادة التضخم، كما يشير كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، كينيث روجوف، هو “تقليل عبء الديون” (وهو ما يطلق عليه “التخلف الناعم عن السداد” soft default) أكثر من كونه سعيا إلى تحصيل عوائد من إصدار العملة (seigniorage).

لذا، فإن انخفاض الأسعار، الذي كان عادة ما يرتبط بالوفرة، أصبح اليوم مرعبا في الاقتصادات المثقلة بالديون. وعلاوة على ذلك، فإن التقدم التكنولوجي وتحسن الإنتاجية في الاقتصادات الحديثة يخفضان الأسعار كما هو معروف، ولكن هذا يشكل تهديدا للاستقرار في اقتصاد تغذيه الديون. وبالتالي، هناك تناقض متأصل بين هيمنة الديون وبين الازدهار الاقتصادي.


مطاردة الحلقة المفرغة

لا تنتهي القصة هنا. ففي النظام القائم على الفائدة، يكون للديون القدرة على النمو من تلقاء نفسها، حيث ينفصل بناء الديون هيكليا عن بناء الثروة. وتسمح الآليات المضاعفة للديون بالنمو بشكل أسرع من الثروة الحقيقية، ولذا يتطلب النمو غير المتوازن للديون والثروة قوة موازنة، على الأقل على المدى القصير، وهذا هو الدور الذي يقوم به التضخم. فبينما ينمو الدين بشكل أسرع من الثروة الحقيقية، تعمل الأسعار المتضخمة على تقليل الفجوة بين الاثنين. وبعبارة أخرى، لا يمكن للاقتصاد الحقيقي اللحاق بخطى الديون المتضاعفة ذاتيا، ولذلك يجب أن ترتفع الأسعار باستمرار لتضييق الفجوة. فمن دون زيادة مستمرة في الأسعار، سوف يُسحق الاقتصاد تحت وطأة الديون الثقيلة.



لسوء الحظ، لن يتمكن التضخم دائما من اللحاق بالفجوة المتزايدة بين الديون والثروة، وذلك لأن المقرضين، عندما يقررون الإقراض، سيعمدون إلى جعل التضخم المتوقع جزءا من تكلفة التمويل. ولكي يقلل التضخم من عبء الدين، يجب أن يكون غير متوقع، أي لا يكون قد تم احتسابه في تكلفة الدين منذ البداية. ولكن التضخم لا يمكن أن يكون غير متوقع بشكل ممنهج. فلو كان ممنهجا فينبغي توقعه، وإذا كان الأمر غير متوقع فيجب أن يكون غير ممنهج، وفي هذه الحالة فإن التضخم لن يساعد الاقتصاد على اللحاق بالديون. وواقع الأمر إن الديون والتضخم يمارسان لعبة مطاردة لا تتوقف (Catch 22)، وهذا ما يفسر سبب صعوبة السيطرة على التضخم في نظام قائم على الفائدة.


ترويض الديون

إذا أردنا السيطرة على التضخم، فنحن بحاجة للسيطرة على الديون. لكن في ظل النظام القائم على الفائدة، لا يمكن السيطرة على الديون، لأن الفائدة تطلق “الجنّي من القنينة”، ولكي نعيد الجنّي إلى القنينة نحتاج إلى فرض إجراءات معينة لاحتواء نمو الديون. وهنا يبرز دور التمويل الإسلامي.

يتطلب التمويل الإسلامي أن تكون الديون الهادفة للربح جزءاً لا يتجزأ من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية، مثل التجارة والإنتاج. أما جني الأموال من إقراض المال أو الربا فمحظور تماما، ليس فقط في القرآن، ولكن في التوراة والإنجيل أيضا، بل إن غالبية الأديان تتخذ موقفاً سلبياً من الربا.

ما يسفر عنه الربا أو الفائدة هو الإخلال بالتوافق بين تكوين الديون وتكوين الثروة، وتشكل الفائدة “زاوية الانفراج” بين العمليتين. وكما هو بديهي من علم الهندسة، فإن الزاوية الصغيرة تبدو في البداية مهملة، ولكن مع امتداد الحافتين بعيدا، ينمو الاختلاف بشكل كبير.

وفي حين أن التمويل الإسلامي يسمح بتمويل من خلال الديون، لكنه يرسم خطاً فاصلاً بين “الديون الجيدة” و”الديون الرديئة”. إن الديون الجيدة هي التي يتم دمجها كليا عند الإنشاء مع تكوين الثروة، في حين تنفصل الديون الرديئة إجباريا عن الأنشطة التي تنشئ قيمة مضافة.

ونظراً للقيود المفروضة على تمويل الديون، يشجع التمويل الإسلامي الأدوات غير المتعلقة بالديون، مثل المشاركة والتأجير وما شابه ذلك، كما يتلقى التمويل غير القائم على الديون دعما قويا بسبب تكامله الطبيعي مع الأنشطة الاقتصادية. وتجعل ترتيبات التمويل هذه الاقتصاد قادراً على مقاومة مشاكل انكماش الديون، بحيث تصبح السيطرة على التضخم في مثل هذه البيئة ممكنة.

في خط الدفاع الثاني من حيث الأهمية ضد التضخم، فضلا عن المخاطر الاقتصادية الأخرى يبرز القطاع غير الربحي؛ حيث إن الأنشطة التي لا تهدف للربح ضرورية في التمويل الإسلامي. وهي تشمل مجموعة من الأنشطة، بدءا من الصدقات والزكاة، إلى الأوقاف، إلى القرض الحسن (بدون فوائد) الذي يعد أحد أشكال الأوقاف النقدية.

يشكل القطاع غير الربحي المنظم “ملاذا آمنا” للاقتصاد، ويوفر شبكة أمان للضعفاء والفئات الهشة، كما أنه يساعد في تطويق ضغوط التضخم.

وعندما تتسبب صدمة خارجية، مثل الأزمة الأوكرانية الحالية، في زيادة حادة في الأسعار، يسارع أعضاء السوق لتغطية تكاليفهم عبر تحميل التكاليف للعملاء، ويطالب العمال إذ ذاك بأجور أعلى، وهذا يعقد الأمور أكثر. ويصبح هذا السباق المسعور بغية التغلب على التضخم هو المحرك الرئيس وراء التوقعات التي تتحقق ذاتيا والدوامة التضخمية.


الخلاصة

لا يمكن بحال ترويض التضخم دون ترويض الديون أولا، ويوفر التمويل الإسلامي إطارا شاملا لترويض الديون من المستوى الأدنى وحتى المستويات العليا، حيث إن منظومة التمويل الإسلامي هو نظام تقاسم للمخاطر. وهو نظام له القدرة على مقاومة واستيعاب المخاطر الاقتصادية مختلفة، ومع أنه لا يجعل الاقتصاد خاليا من المخاطر، فإنه سيجعل هذه المخاطر أكثر قابلية للإدارة وتحقيق الاستقرار الذاتي. ولكن عندما يخرج الدين عن السيطرة، فإن مثل هذه المخاطر تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الذاتي.

ويمكن توضيح الفرق بين النظامين من خلال المقاربة التي قدمها إيرفينغ فيشر في ورقته البحثية عام 1933:

“لنأخذ تشبيها آخر، فإن مثل هذه الكارثة تشبه إلى حد ما “انقلاب” السفينة. فهي في ظل الظروف العادية تكون دائما قريبة من التوازن والاستقرار، ولكنها بعد أن تميل بمقدار أكبر من زاوية معينة، فإن هذا الميل لا يعود بعدها إلى التوازن، ولكنه ينحى بدلا من ذلك إلى الابتعاد عنه بشكل أكبر”.

  • شكراً للدكتور عارف سليمان، والدكتور رامي عبد الكافي والدكتور سلمان سيد علي على تعليقاتهم القيمة، وشكر خاص للأخ حبيب بيندقا على الدعم القيم.


ترجمة: د. محمود بكري.


المدونون
COVID-19
تحديات استدامة الديون في الدول الأعضاء بالبنك الإسلامي للتنمية وسط تشديد شروط التمويل العالمية

COVID-19
الأزمة المصرفية الأمريكية ومخاطر العدوى العالمية

COVID-19
الحافز المنحرف: تلك الكوبرا التي تلدغ التنمية

COVID-19
توطيد بريكس يحدث تحولا في المشهد الاقتصادي والتنموي العالمي

COVID-19
تأثير الأزمات العالمية على الفقر: القياس والاتجاهات والتحديات

Check More Blogs From Sami Al-Suwailem

09 May, 2023 -Economics and Finance
Sami Al-Suwailem | مقال بالعربي
تغيير نموذج النظام المالي العالمي

"لا يمكننا تحمل استمرار التعثر من أزمة إلى أخرى" - أنجيلا ميركل (2009م) عنوان هذا المقال هو عنوان خطاب ألقاه في...

قراءة المزيد
05 Apr, 2023 -COVID-19
Sami Al-Suwailem | English Article
A Paradigm Change for the Global Financial System

We cannot afford to keep stumbling from one crisis to the next -- Angela Merkel (2009) The title of this...

Read
18 Jan, 2023 -
Sami Al-Suwailem | English Article
التضخم: كلب الحراسة الذي لم ينبح!

 المحقق غريغوري: هل هناك أي نقطة أخرى تود أن تلفت انتباهي إليها؟  شرلوك هولمز: الحادثة الغريبة للكلب في الليل.  المحقق غريغوري: الكلب...

Read