هذه المقالة مترجمة عن الإنجليزية لمدونة إلكترونية منشورة بعنوان (A Framework for Future Economics).
المترجم: د. محمود بكري
على الرغم من أن عدداً كبيراً من الكتابات الاقتصادية قد تناولت أوجه القصور في الاقتصاد الكلاسيكي السائد، فإن الحاجة ما تزال ماسة لإيجاد إطار متماسك لنموذج اقتصادي بديل. وتعد أزمة كوفيد-19 فرصة لمعالجة هذه المسألة في ظل تبعات الوباء العالمي الجديد، وهذه المقالة المقتضبة محاولة لوضع إطار اقتصادي موحد.
ما الذي اختلف في أزمة كوفيد-19؟
أظهرت أزمة كوفيد-19 بوضوح لماذا تعتبر الرعاية الصحية “سلعة” أساسية، ليست للأفراد فحسب، بل للاقتصاد برمته، ولذلك فإنه عادة ما يتم وصف هذا القبيل من السلع في اقتصاديات الكتب المدرسية بأنها “سلع عامة”. وباختصار فإن السلعة العامة، هي في الغالب سلعة غير قابلة للتجزئة؛ فإما أن يحصل كل المجتمع – أو الغالبية العظمى منه – على هذه السلعة أو أن لن يحصل عليها أحد. وهذا واضح جدا في حالة الوباء؛ فإما أن يكون جميع الأفراد آمنين وبصحة جيدة، أو أنهم جميعا معرضون لخطر الإصابة.
ومن هذا المنطلق فإن المبدأ العام هو وجوب توفير الخدمات الصحية لجميع أفراد المجتمع، ومن ثم فإن خصخصة الرعاية الصحية ليست إستراتيجية قابلة للتطبيق، لأن الفقراء لن يتحملوا على الأرجح ثمن شراء اللقاحات أو الأدوية. وقد يكون هذا ممكنا إذا ما كانت الصحة قابلة للقسمة، وكان مرض الفقراء لا يؤثر على الأغنياء، ولكن هذا ليس صحيحا بحال؛ إذ لا يميز الفيروس بين الأغنياء والفقراء. وعليه فإنه يجب توفير الرعاية الصحية للجميع بغض النظر عن الدخل الذي يحققونه أو الثروة التي يمتلكونها.
لا وجود لسوق دون سلع عامة
هل يمكننا تخيل اقتصاد يخلو من المؤسسات الصحية؟ الإجابة هي بالتأكيد لا؛ بيد أن الرعاية الصحية ليست السلعة العامة الوحيدة التي لا يمكن للسوق أن يعمل دونها. خذ النظام على سبيل المثال؛ هل النظام قابل للقسمة؟ هل من الممكن أن يتبع بعض الناس القوانين (كحركة المرور على سبيل المثال) بينما لا يتبعها الآخرون؟ هل يمكن أن ينطبق القانون على بعض المواطنين دون أن ينطبق على بعضهم الآخر؟ إذا أضحى الأمر كذلك، فمن المؤكد أنه لن يكون اقتصادا متحضرا بحال؛ إذ ينبغي تطبيق القوانين والقواعد على جميع المواطنين المعنيين بها دون تمييز.
ونظراً لأن النتيجة الرئيسة المرجوة من القوانين واللوائح هي الاستقرار، فإن الاستقرار أيضا يعد منفعة عامة لا يمكن لأي سوق أن يعمل دونها.
وقد يعترض على ذلك من يرى بأن الاقتصاد السائد يعترف بوجود المنافع العامة، وأنه يخصص لهذا الموضوع فصولا في كتب الاقتصاد الجزئي.
إن الاقتصاد العام هو فرع راسخ في الاقتصاد، وهذه الحجة توضح أنه من الممكن في النظرية الكلاسيكية الجديدة إيجاد سوق حرة دون الحاجة إلى سلع عامة. ولكن هنا يكمن لب المعضلة؛ فالسوق الحر لا يمكن له العمل بصورة طبيعية دون توفير المنافع أو السلع العامة الأساسية.
مأساة المنافع المشتركة
من أمثلة السلع العامة الأساسية أيضاً الموارد المشتركة كالماء والنفط والهواء النقي؛ فإذا كان كل فرد في المجتمع يستهلك المياه النظيفة بشكل مفرط فيه (من أجل إنتاج المزيد من المحاصيل الزراعية أو تربية الماشية بكيفية أكبر من البقية على سبيل المثال)، فإن سائر أفراد المجتمع سيحذون حذوه، لأنه ما من أحد يريد أن يتخلف عن الركب. وستكون النتيجة هي استنفاد الموارد في فترة قصيرة، مما يترتب عليه أن جميع أفراد المجتمع سيخسرون أو ينتهون (وهنا تكمن “المأساة”).
ومع ذلك فإنه في حال توافق المجتمع على استهلاك الموارد بشكل مقتصد وبحكمة، فإنه سيكون قادرا على الحفاظ على الموارد لفترة طويلة. وبعبارة أخرى، فإن التنمية المستدامة هي أيضا سلعة عامة أساسية.
وعموما تظهر مأساة المنافع المشتركة أن الندرة قد تكون على الأرجح نتيجة للسلوك الأناني أكثر من كونها نتيجة لقلة الموارد الطبيعية؛ فمن البديهي أن الموارد الطبيعية محدودة ولكن المصدر الرئيس للندرة قد لا يرجع إلى محدوديتها في الطبيعة بقدر أن سببها الأساسي استهلاك تلك الموارد بطريقة غير مستدامة.
المعضلات الاجتماعية
تظهر السلع العامة الصراع الحاصل بين المصلحة الذاتية الفردية ومصلحة المجموعة. فما هو مفيد للفرد قد يصبح ضارا بالمجموعة إذا ما تبناه جميع الأعضاء. وهذا مثال تقليدي يضرب على “مغالطة التكوين”، وفي السياق الاجتماعي تسمى هذه المغالطات بـ”المعضلات الاجتماعية”.
تتمثل إحدى طرق محاكاة المعضلات الاجتماعية في لعبة معضلة السجين Prisoner’s Dilemma المشهورة، التي يوضحها الجدول التالي:
اللاعب 2 | |||
---|---|---|---|
الثقة | التخلي | ||
اللاعب 1 | الثقة | 10,10 | 3,11 |
التخلي | 11, 3 | 4, 4 |
يكون لكل لاعب خياران (أو إستراتيجيتان): إما التعاون الناتج عن ثقته في اللاعب الآخر أو التخلي، ويمثل مردود اللاعب 1 الرقم الأول يسار الفاصلة، بينما مردود اللاعب 2 هو الرقم الثاني يمين الفاصلة. ويتحتم على كل لاعب تحديد الإستراتيجية التي يختارها قبل معرفة ما سيفعله الآخر، وإذا قرر كلا اللاعبين التعاون، فسيحصل كلاهما على مكافأة قدرها 10. ولكن، إذا اعتقد اللاعب 1 أن اللاعب 2 سيتعاون، فسيكون لدى اللاعب 1 حافز للتبديل (أو الانحراف) واختيار “التخلي” للحصول على مكافأة قدرها 11 بدلاً من 10. وبالطبع لن تكون هذا نتيجة مرضية للاعب 2، لأنه سيحصل على 3 فقط بدلاً من 10. وإذا ما توقع اللاعب 2 أن اللاعب 1 سيختار “التخلي” فعندئذ سيكون من الأولى للاعب 2 تغيير اختياره إلى “التخلي”، وبالتالي الحصول على 4 بدلا من 3.
والنتيجة النهائية هي أنه إذا ما اعتقد كل لاعب أن الآخر سيلعب بأنانية، فسينتهي الأمر بمكافأة 4 لكل منهما، في حين أنهما إذا وثقا في بعضهما وقررا بالتالي التعاون فإن كلا منهما سيحصل على 10، وهي نتيجة أفضل بكثير من 4. ولهذا السبب أطلق عليها مسمى “معضلة”؛ لأنه من وجهة النظر الفردية من الأفضل أن يمارس كل منهما “التخلي”، ولكن إذا ما قام الطرفان بفعل ذلك، فسيصبح كلاهما أسوأ حالا.
الثقة
وهذا مما يستدل به على أهمية وفي نفس الوقت معضلة الثقة، التي تعد السلعة العامة الأهم على الإطلاق؛ إذ لا يمكن لأي سوق أن يعمل دون أن يثق أعضاؤه ببعضهم. فإذا لم يثق المشتري بالبائع فسيرفض الشراء، والعكس صحيح. وفي المقابل، عندما تتصرف غالبية المجتمع بأمانة فسوف يكون مكسبا لبعض الأفراد أن يمارسوا الغش والخداع. وسيجلب لهم الغش بعض المكاسب طالما ظل باقي المجتمع صادقا. لكن بقية الأفراد لن يقبلوا استغلالهم، وبالتالي سيقررون الغش أيضا. وفي نهاية المطاف، فإنه إذا ما قرر جميع أفراد المجتمع الغش، فإن السوق ببساطة سينهار.
ويمكننا تلخيص معضلة الثقة في الجدول التالي:
اللاعب 2 | |||
---|---|---|---|
الثقة | التخلي | ||
اللاعب 1 | الثقة | 10,10 | 3,11 |
التخلي | 11, 3 | 4, 4 |
التمويل الإسلامي
ماذا عن مبادئ التمويل الإسلامي؟ هل تتناسب مع الإطار المقترح آنفا؟
إن أحد أهم مبادئ التمويل الإسلامي تحريم الربا؛ فالقرآن الكريم (البقرة – الآية 275) ينص بوضوح على أن التجارة مشروعة في حين أن الربا ممنوع. فكيف يمكننا التمييز بين هذين الضربين من الأنشطة؟
تتضمن التجارة تحويل الأموال إلى سلع ثم تحويل السلع إلى أموال، وفي المقابل فإن الربا لا يتضمن سوى خطوة واحدة، المال الآن مقابل المزيد من المال في وقت لاحق. إنها أقصر من دورة التجارة، ولذلك فمن المغري التحول من التجارة إلى الإقراض بفائدة. ولكن ماذا سيحدث إذا تحول جميع أفراد المجتمع إلى الإقراض؟ الواضح أن الاقتصاد سينهار بذلك، إذ لا يمكن لاقتصاد أن يزدهر دون تجارة.
قد يجلب الربا بعض المكاسب للمقرضين (أو المرابين) طالما أن غالبية المجتمع يقومون بالتجارة، ومع ذلك فإنه لا يمكن للمجتمع أن يزدهر من خلال جمع الفائدة من إقراض بعضهم بعضا. ولذا فإن الربا مثال صريح لـ”مغالطة التكوين”، لأنه يتسنى من خلاله لأفراد أن يعيشوا على الفوائد التي يدفعها آخرون، ولكن يستحيل أن يكسب الجميع من خلال إقراض بعضهم بعضا. وبعبارة أخرى، فإن التجارة هي إحدى مخرجات التعاون، في حين أن الربا هو إحدى نقاط الضعف.
مجموعة 2 | |||
---|---|---|---|
التجارة | الإقراض | ||
مجموعة 1 | التجارة | 10,10 | 3,11 |
الإقراض | 11, 3 | 4, 4 |
هل يمكن أن تندرج التجارة أيضا ضمن مغالطة التكوين؟ إذ أنه إذا شارك جميع أفراد المجتمع في السوق بحيث يبيع ما يحتاجه بشكل أقل ويشتري ما يحتاجه بشكل أكبر، فإن السوق سوف يزدهر. لكن ماذا سيحدث لو قام العديد من الأعضاء ببيع السلعة نفسها؟ سينخفض عندئذ سعر السلعة، وسيكون من المربح لهؤلاء البائعين التحول إلى سلع أخرى.
أما في حالة الربا، فإنه إذا كثر الإقراض فإن جودة القروض تتدهور (كما حدث في أزمة الرهن العقاري). ومن المؤسف أن مخاطر الائتمان المرتفعة لن تكون كافية للحد من الإقراض، ذلك أن المقرضين يمكنهم عرض إعادة التمويل على المقترضين، ذوي التصنيف الائتماني الرديء، وبالتالي الاستمرار في تحصيل الفوائد. وعموما فإن الربا يسمح للدين بالتضاعف ذاتيا دون آلية ذاتية لتصحيحه إلى أن يصبح الانهيار أمرا لا مفر منه.
تقاسم المخاطر
من مبادئ التمويل الإسلامي المهمة أيضاً تقاسم المخاطر، وهناك العديد من أشكال تقاسم المخاطر، ولكن الأكثر شيوعا هو تمويل أسهم رأس المال. ونظرا لأن الانطباع العام هو أن الأسهم باهظة الثمن، فإن الشركات تفضل التمويل بالدين. لكن لماذا تكون أسهم رأس المال باهظة؟ إن الأسهم باهظة الثمن لأنها محفوفة بالمخاطر، وذلك بسبب الكم الكبير من الديون التي تدعمها. وبعبارة أخرى، فإن التمويل الكبير عن طريق الديون، يجعل أسهم رأس المال أكثر خطورة، وبالتالي أكثر تكلفة. ولكن إذا كان حجم التمويل بالدين صغيرا مقارنة بأسهم رأس المال فستكون أسهم رأس المال أقل مخاطرة، وبالتالي ستكون تكلفة كل دولار من أسهم رأس المال أقل.
وبعبارة أخرى، فإن أسهم رأس المال تكون باهظة في بيئة يكون فيها الرفع المالي مرتفعا نظرا لأن أسهم رأس المال القليلة هي وحدها التي تغطي المخاطر الهائلة للديون الكبيرة. ولكن، عندما يتم تخفيض الدين وزيادة أسهم رأس المال، تنخفض تكلفة كل دولار للأسهم. فكلما زادت أسهم رأس المال، قل خطر السهم الواحد، وبالتالي انخفضت تكلفة تمويل الأسهم. ونتيجة لذلك فإن أسهم رؤوس الأموال تكون باهظة الثمن في بيئة يكون فيها الرفع المالي عاليا، ولكنها لن تكون مكلفة في بيئة يكون فيها الرفع المالي منخفضا.
من الواضح أن بيئة الرفع المالي المنخفض ستكون أكثر مرونة واستقرارا من بيئة الرفع المالي المرتفع. وقد أشرنا سابقا إلى أن الاستقرار منفعة عامة، فهل من حافز للانحياز عن بيئة رفع مالي منخفض؟ إن العائد على حقوق المساهمين يصبح أعلى مع تمويل الديون، وإذا ما تحول المزيد من الشركات إلى إستراتيجية الرفع المالي المرتفع، فإن حافز الاستفادة من رفع مالي إضافي يصبح أقوى، في سباق محموم نحو تحقيق أكبر قدر ممكن من الهشاشة المالية. ومن المؤكد أن نتيجة هذا السباق ستكون عندئذ ضارة بجميع اللاعبين في نهاية المطاف.
مجموعة 2 | |||
---|---|---|---|
رفع مالي منخفض | رفع مالي عال | ||
مجموعة 1 | رفع مالي منخفض | 10,10 | 3,11 |
رفع مالي عال | 11, 3 | 4, 4 |
الخلاصة: إعادة تعريف المعضلة الاقتصادية
تنشأ المعضلات الاجتماعية في جميع التفاعلات الاجتماعية تقريبا، بما في ذلك تفاعلات السوق. ولا يمكن لأي سوق أن يعمل دون إيجاد حل للمعضلات الأساسية التي تواجه أعضاءه في المقام الأول، وهذه هي “المعضلة الاقتصادية” التي يعنى علم الاقتصاد بإيجاد حلول لها. وتعد دراسة عمليات السوق الحرة ذات أهمية كبيرة، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو دراسة كيفية إنشاء أو تصميم سوق في المقام الأول، إذ أن تصميم سوق ناجح يحتم علينا أولا معرفة كيفية حل المعضلات الاجتماعية ذات الصلة بهذا السوق.
إن الأزمات الرئيسة في القرن الحادي والعشرين (وفي الواقع معظم الأزمات في التاريخ) هي في الغالب معضلات اجتماعية: الأزمة المالية العالمية، وأزمة تغير المناخ، وأزمة كوفيد-19. فإذا كان لعلم الاقتصاد أن يكون وثيق الصلة بتحديات العالم الحقيقي، فيجب علينا إعادة صياغته باعتباره العلم الذي يهدف إلى حل المعضلات الاجتماعية. ومن الطبيعي أن تكون مبادئ التمويل الإسلامي جزءا من هذا الإطار.
ملحوظة
هذه المقالة ملخص لكلمة رئيسة ألقيت عبر الإنترنت في المؤتمر الدولي الثاني عشر للاقتصاد والتمويل الإسلامي، الذي نظمته جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم، تركيا، بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، والجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي.
المراجع
للاطلاع على مزيد من المناقشات والمراجع انظر المادتين التاليتين:
A-Suwailem, S. (2009) “Tenets of the Islamic Economic System,” Encyclopedia of Islamic Economics, edited by Abdelhamid Brahimi and Khurshid Ahmed, Volume II, UK.
Al-Suwailem, S. (2014) “Complexity and Endogenous Instability,” Research in International Business and Finance, vol. 30.
"لا يمكننا تحمل استمرار التعثر من أزمة إلى أخرى" - أنجيلا ميركل (2009م) عنوان هذا المقال هو عنوان خطاب ألقاه في...
قراءة المزيدWe cannot afford to keep stumbling from one crisis to the next -- Angela Merkel (2009) The title of this...
Readالمحقق غريغوري: هل هناك أي نقطة أخرى تود أن تلفت انتباهي إليها؟ شرلوك هولمز: الحادثة الغريبة للكلب في الليل. المحقق غريغوري: الكلب...
Read